قوله تعالى : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } الآية .
اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الصدقات ، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها .
وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً :
منها : قالوا : شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة . فوجب القولُ بوجوبها ؛ لأنَّ شكر المنعم واجب .
ومنها : أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة ، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة .
ومنها : أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود الذي لأجله خلق المالُ ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة .
ومنها : أنَّ الفقراء عيالُ الله ، لقوله تعالى { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] والأغنياء خزان الله ؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى ، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم ، لما ملكوا منها حبة واحدة .
ومنها : أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة ، لا يليقُ بحكمة الرحيم ؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير .
ومنها : أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها ؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة ؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك .
كلمة " إنَّما " للحصر ، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه ، ويدلُّ على أنَّ كلمة " إنَّما " للحصر ؛ لأنها مركبة من " إن " و " ما " ، و " إن " للإثبات و " ما " للنفي " ، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم ، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام " إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ " {[17906]} ، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام " إنما الماءُ من الماءِ " ، ولولا إفادتها الحصر ، لما كان كذلك ، وقال تعالى { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] فدلَّت على نفي إلهية الغير ؛ وقال الأعشى : [ السريع ]
ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى *** وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ{[17907]}
أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما *** يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي{[17908]}
فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة " إنَّما " للحصر .
وروى زياد بن الحارث الصُّدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي ، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء ، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك " {[17909]} .
مذهب أبي حنيفة : أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف ، وهو قول عمر وحذيفة ، وابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي{[17910]} . قال سعيدُ بن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ{[17911]} وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية . قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث ، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثاله لو وجد خمسة أصناف ، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم ؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم .
واختلفوا في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، ومجاهدٌ ، وعكرمةُ والزهريُّ : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : السَّائل{[17912]} . قال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف }{[17913]} [ البقرة : 273 ] .
وقال قتادة : الفقير : المحتاج الزَّمِنُ ، والمسكين : الصحيح المحتاج{[17914]} . وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب{[17915]} . وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن ، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل .
واستدل بقوله : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] فأثبت لهم ملكاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الفقر ، وقال : كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً{[17916]} . وكان يقول : اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً{[17917]} ، فكيف كان يتعوذ من الفقر ، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض ؟
وقال أصحاب الرأي : الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له ، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه ، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى : { يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } [ فاطر : 15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه ، وجعل طعام الكفارة له ، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة .
وقال إبراهيمُ النخعيُّ : الفقراء هم المهاجرون ، والمسكين من لم يهاجر ، وقيل : لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيءٌ واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة : وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين ، قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف . واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة ، فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حدُّه أن يملك مائتي درهم . وقيل : من ملك خمسين درهماً ، لا يحلُّ له أخذ الصدقة . روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش . قيل : وما يُغنيهِ ؟ قال : " خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها من الذَّهب " {[17918]} ، وهو قول الثوري ، وابن المباركِ ، وأحمد وإسحاق وقالوا : لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين ، وقيل : أربعون درهماً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً " {[17919]} .
قوله : { والعاملين عَلَيْهَا } وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة ، يعطون بقدر أجور أمثالهم .
وقال مجاهدٌ والضحاكُ : يعطون الثمن ، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً ؛ لأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال : أما علمت أن مولى القومِ منهم{[17920]} .
قوله : { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } قال ابنُ عباسٍ : هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلاً : أبُو سفيانَ ، والأقرعُ بنُ حابسٍ ، وعيينةُ بن حصنٍ ، وحويطبُ بنُ عبد العزى ، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر ، والحارثُ بنُ هشام ، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ ، وأبُو السنابل ، وحكيم بن حزامٍ ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية ، وعبد الرحمن بنُ يربوع ، والجدُّ بنُ قيس ، وعمرو بنُ مرداس ، والعلاءُ بنُ الحرث ، " أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيمٌ : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها ؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : بل التي رغبت عنها ، فقال : والله لا آخذ غيرها " فقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً ، وشقَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا ، لكن ألفهم بذلك{[17921]} . قال ابنُ الخطيبِ : وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين ، ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم ، فذكر ذلك مثالاً .
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار ؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام .
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة .
وقال جماعةٌ من أهل العلم : إنَّ المؤلفة منقطعة ، وسهمهم ساقط ، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي ، وبه قال مالكٌ ، والثوريُّ ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ : سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ ، وهو قول الزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي ثور ، وقال أحمدُ : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك .
قوله : وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف ، والتقديرُ : " وفي فك الرقاب " وقد تقدم الكلامُ في تفسير " الرقاب " في قوله : { والسآئلين وَفِي الرقاب } [ البقرة : 177 ] . ثمَّ في تفسير " الرقاب " أقوال :
أحدها : أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة ، وقال مالكٌ وغيره : إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب ؛ لأن قوله : { وَفِي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه ، وقال الزهريُّ : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين المسلمين ، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا .
قال بعض العلماء : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب ؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } ولمَّا ذكر " الرقاب " أبدل حرف اللام بحرف " في " فقال : " وفِي الرِّقابِ " فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة ، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ . وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم .
قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى " فِي " في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ ؛ لأنَّ " في " للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً " .
ثم قال : " وتكرير " في " في قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين " .
قوله : والغَارمينَ قال الزجاج : أصل الغرم في اللغةِ : لزوم ما يشق ، والغرام العذاب اللاَّزم ، وسمي العشق غراماً ، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له ، ومنه : فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ ، وسمي الدَّين غراماً ، لكونه شاقاً ، والمرادُ بالغارمين المديونون ، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية ؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية .
روى الأصمُّ في تفسيره " أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة : لا نملك الغرَّة يا رسول الله ، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم " وكان حمل على الصدقة يومئذ{[17922]} .
قوله : { فِي سَبِيلِ الله } قال المفسِّرون : يعني الغزاة ، قال أكثرُ العلماء : يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة .
ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله } عام في الكل وقال أكثر أهل العلم : لا يعطى منه شيء في الحج . وقال قومٌ : يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق{[17923]} .
قوله : { وابن السبيل } وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة ، وإن كان ذا يسار في بلده . وقال قتادةُ : ابن السبيل : هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ : ابن السبيل : الحاج المنقطع .
واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية . واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف ؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف ، فإنَّما يجوز في غير العامل ، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق .
فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون والمؤلفة ، والرقاب ، والغارمون ، بصيغة الجمع ، وذكر الصنفين الآخرين ، وهما : في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد ؟
فالجوابُ : أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة ، ولا يقال : هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين ؛ لأنا نقول : لو أفرد في الجميع ، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام ، أو منكرين ، فإن عرّفهم بالألف واللام ، احتمل أن تكون الألف واللام للعهد ؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع ، وإن أفردهم منكرين ، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد ، أو مسكين واحد ، وكذلك سائرها ، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد ، وهو خلاف الإجماع .
والسَّبيل : الطريقُ ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها ، ومروره عليها قال بعضُ العلماءِ : إذا كان المسافر غنيّاً في بلده ، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح . ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى .
إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية ، هل يقبل قوله أو يقال : أثبت ما تقولُ ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته ، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي .
قوله : " فَرِيضَةً " في نصبها وجهان :
أحدهما : أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ } في قوة : فرض الله ذلك .
والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء ، قاله الكرماني ، وأبُو البقاءِ .
يعنيان من الضمير المستكن في الجار ، لوقوعه خبراً ، أي : إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة ، أي : مفروضة . ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة ، وإنَّما دخلت التاء ، لجريانها مجرى الأسماء ، ك " النَّطيحة " . ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال ، ونُقل عن سيبويه أن " فريضة " منصوب بفعلها مقدرا أي : فرض الله ذلك فريضة . ونقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع . ثم قال : { والله عَلِيمٌ } بمقادير المصالح { حَكِيمٌ } لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح .
وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة ، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ، من بني هاشم ومواليهم ، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة ، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً ، أو عاملاً .