مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

وأما قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلها واحدا . قادرا على مقدورات لا نهاية لها ، عالما بمعلومات لا نهاية لها ، غنيا عن كل الحاجات ، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها ، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه -فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى { إياك نعبد } ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لابد من تفصيل أقسام تلك التكاليف ، وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي ، وجميع ما صنف في الدين من كتب الفقه يدخل فيه تكاليف الله ، ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين ، وأيضا يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السماوات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات ، وأيضا فكتب الفقه مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح ، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل ، وهي التي تشتمل عليها كتب الأخلاق ، وكتب السياسات ، بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة ، وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى : { إياك نعبد } علم حينئذ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها .