مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ} (6)

وأما قوله : { لترون الجحيم } فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفا بثم تغليظا للتهديد وزيادة في التهويل .

المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر ، وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر ، كأنه تعالى قال : لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضررا آخر ، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم ، وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى { كلا } في هذا الموضع بمعنى حقا كأنه قيل حقا : { لو تعلمون علم اليقين } .

المسألة الثالثة : في قوله : { علم اليقين } وجهان ( أحدهما ) : أن معناه علما يقينا فأضيف الموصوف إلى الصفة ، كقوله تعالى : { ولدار الآخرة } وكما يقال : مسجد الجامع وعام الأول ( والثاني ) : أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة ، وقد سمي الموت يقينا في قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين ، وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله ، وقد يقول الإنسان : أنا أعلم علم كذا أي أتحققه ، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب ، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال : علمت علم كذا .

المسألة الرابعة : العلم من أشد البواعث على العمل ، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعدا وعظة ، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة ، كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات [ وجد خرزا ] ، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ، ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا ، والذين لم يأخذوا كانوا أيضا في الغم ، فهكذا يكون أحوال أهل القيامة .

المسألة الخامسة : في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر ، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلا له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملا ثم الويل له .