قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } فيه قولان :
المسألة الأولى : في أن الذي يسأل عن النعيم من هو ؟ فيه قولان :
أحدهما : وهو الأظهر أنهم الكفار ، قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان ( الأول ) : ما روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية ، قال يا رسول الله : أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنما ذلك للكفار ، ثم قرأ : { وهل يجازى إلا الكفور } ( والثاني ) : وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه ، وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره ، فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببا لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة .
والقول الثاني : أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث ، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح لك جسمك ونروك من الماء البارد » وقال محمود بن لبيد : لما نزلت هذه السورة قالوا : يا رسول الله عن أي نعيم نسأل ؟ إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟ قال : «إن ذلك سيكون » وروي عن عمر أنه قال : أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار » وقريب منه : «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها » وروي أن شابا أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال : لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال : ألست علمتني : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك . وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال : هل علي من النعمة شيء ؟ قال : الظل والنعلان والماء البارد . وأشهر الأخبار في هذا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد ، فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال : ما أخرجك يا أبا بكر ؟ قال : الجوع ، قال : والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك ، ثم دخل عمر فقال : مثل ذلك ، فقال : قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم ، فدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها : خيرا ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء ، ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقا وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام : «هذا من النعيم الذي تسألون عنه » وروي أيضا : «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله » وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بأصبعه ، عن لمس ثوب أخيه » واعلم أن الأولى أن يقال : السؤال يعم المؤمن والكافر ، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع .
المسألة الثانية : ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوها ( أحدها ) : ما روي أنه خمس : شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق ( وثانيها ) : قال ابن مسعود : إنه الأمن والصحة والفراغ ( وثالثها ) : قال ابن عباس : إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ( ورابعها ) : قال بعضهم : الانتفاع بإدراك السمع والبصر ( وخامسها ) : قال الحسن بن الفضل : تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ( وسادسها ) : قال ابن عمر : إنه الماء البارد ( وسابعها ) : قال الباقر : إنه العافية ، ويروى أيضا عن جابر الجعفي قال : دخلت على الباقر فقال : ما تقول أرباب التأويل في قوله : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } ؟ فقلت : يقولون الظل والماء البارد فقال : لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وأسقيته ماء باردا أتمن عليه ؟ فقلت : لا ، قال : فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه ، فقلت : ما تأويله ؟ قال : النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة ، أما سمعت قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا } الآية ( القول الثامن ) : إنما يسألون عن الزائد مما لابد منه من مطعم وملبس ومسكن . ( والتاسع ) : وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ، ويدل عليه وجوه : ( أحدها ) أن الألف واللام يفيدان الاستغراق ( وثانيها ) : أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى ( وثالثها ) : أنه تعالى قال : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ( ورابعها ) : أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل ، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه .
واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة ، ومنها متصلة ومنفصلة ، ومنها دينية ودنيوية ، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة ، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } واستعن في معرفة نعم الله عليك في صحة بدنك بالأطباء ، ثم هم أشد الخلق غفلة ، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين ، وهم أشد الناس جهلا بالصانع ، وفي معرفة سلطان الله بالملوك ، ثم هم أجهل الخلق ، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته ، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود ، ومنه قول ابن السماك للرشيد : أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك ؟ وإذا شرقت بها أكنت تبذل بنصف الملك ؟ وإن احتبس بولك أكنت تبذل كل الملك ؟ فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين ؛ أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره ، قال تعالى : { أن أفيضوا علينا من الماء } أو لأن السورة نزلت في المترفين ، وهم المختصون بالماء البارد والظل ، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لابد منه [ أولا ] ، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفا إلى طاعة الله لا إلى معصيته ، فيكون السؤال واقعا عن الكل ، ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به » فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام .
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون ؟
فالقول الأول : أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب ، فإن قيل : هذا لا يستقيم ، لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله : { ثم لتسألن } وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم ؟ قلنا : المراد من قوله : { ثم } أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة ، وهو كقوله : { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة } إلى قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } .
القول الثاني : أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخا لهم ، كما قال : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها } وقال : { ما سلككم في سقر } ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله ، فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار ، أو يقال : إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها ، يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات ، فيكون ذلك من الملائكة سؤالا عن نعيمهم في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.