مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ} (2)

فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة ، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة ، فبهذا الطريق صار مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق ، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : ( ينزل ) بالياء وكسر الزاي وتشديدها ، والملائكة بالنصب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ينزل } بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها ، والأول من التفعيل ، والثاني من الأفعال ، وهما لغتان :

المسألة الثانية : روي عن عطاء عن ابن عباس قال : يريد بالملائكة جبريل وحده . قال الواحدي : وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدما جائز كقوله تعالى : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } . { وإنا أنزلناه ، وإنا نحن نزلنا الذكر } وفي حق الناس كقوله : { الذين قال لهم الناس } وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله : { بالروح من أمره } فيه قولان :

القول الأول : أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ، ونظيره قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } وقوله : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } .

قال أهل التحقيق : الجسد موات كثيف مظلم ، فإذا اتصل به الروح صار حيا لطيفا نورانيا . فظهرت آثار النور في الحواس الخمس ، ثم الروح أيضا ظلمانية جاهلة ، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية ، كما قال تعالى { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ثم العقل أيضا ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد ، وعالم الدنيا والآخرة ، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن .

إذا عرفت هذا فنقول : القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية ، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل ، والعقل به يكمل جوهر الروح ، والروح به يكمل حال الجسد ، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن ، لأن به يحصل الخلاص من رقدة الجهالة ، ونوم الغفلة ، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة ، ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } وعلى عيسى عليه السلام في قوله : { روح الله } وإنما حسن هذا الإطلاق ، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف ، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى ، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى .

والقول الثاني : في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام ، والباء في قوله : { بالروح } بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه ، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه ، فيكون المعنى : ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل ، والأول أقرب ، وتقرير هذا الوجه : أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جبريل وحده ، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجا من الملائكة ، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال . وتارة ملك البحار . وتارة رضوان . وتارة غيرهم . وقوله : { من أمره } يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وقوله : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وقوله : { وهم من خشيته مشفقون } وقوله : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وقوله : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه ، وقوله : { على من يشاء من عباده } يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته ، وقوله : { أن أنذروا } قال الزجاج : { أن } بدل من الروح والمعنى : ينزل الملائكة بأن أنذروا ، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلام مع التخويف .

المسألة الثانية : في الآية فوائد : الفائدة الأولى : أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة ، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة ، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة ، وذلك الوحي هو الكتب ، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى ، ثم بذكر الملائكة ، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل .

إذا عرفت هذا فنقول : إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي . وبتقدير أن يكون استدلاليا فكيف الطريق إليه ؟ وأيضا الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكا صادقا لا شيطانا رجيما ضروري أو استدلالي فإن كان استدلاليا فكيف الطريق إليه ؟ فهذه مقامات ضيقة ، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه ، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول . فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام ، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول : هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل .

وإذا عرفت هذا فنقول : لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقا معصوما عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى ، لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان ، وحينئذ يلزم الدور ، فهذا مقام صعب . أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } ليس إلا لمجرد قوله : { لا إله إلا أنا فاتقون } وهذا كلام حق ، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة : أولها : النفسانية ، وثانيها : البدنية ، وفي المرتبة الثالثة : الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم ، وفي المرتبة الرابعة : الأمور المنفصلة عن البدن .

أما المرتبة الأولى : وهي الكمالات النفسانية ، فاعلم أن النفس لها قوتان : إحداهما : استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب ، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية ، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف . وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو ، وإليه الإشارة بقوله : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا } والقوة الثانية للنفس : استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم ، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية ، وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة ، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله : { فاتقون } ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية وسعادة هذه القوة في الإنباء بالأعمال الصالحة وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله ( فاتقون ) ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية ، وهي قوله : { لا إله إلا أنا } على كمالات القوة العملية وهي قوله : { فاتقون } .

وأما المرتبة الثانية : وهي السعادات البدنية فهي أيضا قسمان : الصحة الجسدانية ، وكمالات القوى الحيوانية ، أعني القوى السبع عشرة البدنية .

وأما المرتبة الثالثة : وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية ، فهي أيضا قسمان : سعادة الأصول والفروع ، أعني كمال حال الآباء . وكمال حال الأولاد .

وأما المرتبة الرابعة : وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه ، فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية ، وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية ، فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } .