مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

النوع الثالث : من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم ، قوله : { ويجعلون لله ما يكرهون } .

واعلم أن المراد من قوله : { ويجعلون } أي البنات التي يكرهونها لأنفسهم ، ومعنى قوله : { يجعلون } يصفون الله بذلك ويحكمون به له كقوله جعلت زيدا على الناس أي حكمت بهذا الحكم وذكرنا معنى الجعل عند قوله : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } .

ثم قال تعالى : { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } قال الفراء والزجاج : موضع « أن » نصب لأن قوله : { أن لهم الحسنى } بدل من الكذب ، وتقدير الكلام وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى . وفي تفسير { الحسنى } ههنا قولان : الأول : المراد منه البنون ، يعني أنهم قالوا لله البنات ولنا البنون . والثاني : أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى ، يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول ، وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن . الثالث : أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى .

فإن قيل : كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة ؟

قلنا : كلهم ما كانوا منكرين للقيامة ، فقد قيل : إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة ، ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون : إن ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وأيضا فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا : إن كان محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه ، ومن الناس من قال : الأولى أن يحمل { الحسنى } على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده : { لا جرم أن لهم النار } فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار ، فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة . قال الزجاج : لا رد لقولهم ، والمعنى ليس الأمر كما وصفوا جرم فعلهم أي كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا لفظ « أن » في محل النصب بوقوع الكسب عليه . وقال قطرب ( أن ) في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النار وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت . وقوله : { وأنهم مفرطون } قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي : { مفرطون } بكسر الراء ، والباقون : { مفرطون } بفتح الراء . أما قراءة نافع فقال الفراء : المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب ، وقيل : أفرطوا في الافتراء على الله تعالى ، وقال أبو علي الفارسي : كأنه من أفرط ، أي صار ذا فرط مثل أجرب ، أي صار ذا جرب والمعنى : أنهم ذوو فرط إلى النار كأنهم قد أرسلوا من يهيئ لهم مواضع فيها . وأما قراءة قوله : { مفرطون } بفتح الراء ففيه قولان :

القول الأول : المعنى : أنهم متروكون في النار . قال الكسائي : يقال ما أفرطت من القوم أحدا ، أي ما تركت . وقال الفراء : تقول العرب أفرطت منهم ناسا ، أي خلفتهم وأنسيتهم .

والقول الثاني : { مفرطون } أي معجلون . قال الواحدي رحمه الله : وهو الاختيار ووجهه ما قال أبو زيد وغيره : فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان ، وأفرط القوم الفارط ، وفرطوه إذا قدموه فمعنى قوله : { مفرطون } على هذا التقدير : كأنهم قدموا إلى النار فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم .