اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا} (14)

قوله تعالى : { اقرأ كَتَابَكَ } : على إضمار القول ، أي : يقال له : اقرأ ، وهذا القول : إمَّا صفةٌ أو حالٌ ، كما في الجملة قبله . وهذا القائل هو الله تعالى .

قال الحسن : " يَقْرءُوهُ أمِّيًّا كان ، أو غير أمِّيٍّ " {[20260]} .

وقال أبو بكر بن عبد الله - رضي الله عنه- : يؤتى المؤمنُ يوم القيامةِ بصحيفته ، وحسناته في ظهرها ، يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته ، وهو يقرؤها ، حتَّى إذا ظنَّ أنها قد أوبقته ، قال الله له : " قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فِيمَا بَينِي وبَينكَ " فيعظم سروره{[20261]} ويصير من الَّذين قال الله - عزَّ وجلَّ - في حقهم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] .

قوله تعالى : { كفى بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثة أوجه :

المشهور عند المعربين : أنَّ " كَفَى " فعل ماضٍ ، والفاعل هو المجرور بالباء ، وهي فيه مزيدة ، ويدلُّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع ؛ كقوله : [ الطويل ]

ويُخْبِرنِي عَن غَائبِ المَرْءِ هَديهُ *** كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرءُ مُخْبِرا{[20262]}

وقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفَى الشَّيْبُ والإسلامُ للمَرْءِ نَاهِيَا{[20263]}

وعلى هذا ؛ فكان ينبغي أن يؤنَّث الفعل ؛ لتأنيث فاعله ، وإن كان مجروراً ؛ كقوله { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ المؤمنون : 6 ] { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } [ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين ؛ فإن التأنيث مجازيٌّ .

والثاني : أن الفاعل ضمير المخاطب ، و " كفى " على هذا اسم فعل أمر ، أي : اكتفِ ، وهو ضعيف ؛ لقبولِ " كَفَى " علاماتِ الأفعالِ .

الثالث : أن فاعل " كََفَى " ضمير يعود على الاكتفاء ، وتقدَّم الكلام على هذا . و " اليَوْمَ " نصبٌ ب " كَفَى " .

قوله : " حَسِيباً " فيه وجهان :

أحدهما : أنه تمييزٌ ، قال الزمخشريُّ : " وهو بمعنى حاسبٍ ؛ كضريب القداح ؛ بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ذكرهما سيبويه{[20264]} ، و " على " متعلقة به من قولك : حَسِبَ عليه كذا ، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشَّهيد ، فعدِّي ب " عَلَى " لأنَّ الشاهد يكفي المدَّعي ما أهمَّه ، فإن قلت : لِمَ ذكر " حَسِيباً " ؟ قلت : لأنه بمنزلةِ الشاهد ، والقاضي ، والأمين ، وهذه الأمور يتولاَّها الرجال ؛ فكأنَّه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً ، ويجوز أن تتأوَّل النفس بمعنى الشخص ، كما يقال : ثلاثةُ أنفسٍ " . قلت : ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

ثَلاثةُ أنْفُسٍ وثَلاثُ ذَودٍ *** لقَد جَارَ الزَّمانُ على عِيَالِي{[20265]}

والثاني : أنه منصوب على الحال ، وذكر لما تقدم ، وقيل : حسيبٌ بمعنى محاسب ؛ كخليطٍ وجليسٍ بمعنى : مخالطٍ ومجالسٍ .

قال الحسن - رضي الله عنه - : " عَدلَ ، والله ، في حقّك من جعَلكَ حَسِيبَ نَفْسكَ " {[20266]} .

وقال السديُّ : " يقول الكافر يومئذٍ : إنَّك قَضيْتَ أنَّك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسِبُ نفسِي فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " {[20267]} .


[20260]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/135).
[20261]:ينظر: المصدر السابق.
[20262]:البيت لزياد بن زيد العدوي ينظر: البحر 6/14، الفراء 2/119، روح المعاني 15/33، التهذيب واللسان "هدى" الدر المصون 4/377.
[20263]:تقدم.
[20264]:ينظر: الكتاب 2/215.
[20265]:تقدم.
[20266]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/108) والرازي في "تفسيره" (20/135).
[20267]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/135) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/304) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.