مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا} (41)

قوله تعالى { ولقد صرفنا في القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا }

اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة ، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة ، ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين ، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله : { ولقد صرفنا } أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه : أحدها : ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروبا من كل مثل . وثانيها : أن تكون لفظة «في » زائدة كقوله : { وأصلح لي في ذريتي } أي أصلح لي ذريتي . أما قوله : { ليذكروا } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ الجمهور { ليذكروا } بفتح الذال والكاف وتشديدهما ، والمعنى : ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما ، وقرأ حمزة والكسائي { ليذكروا } ساكنة الذال مضمومة الكاف ، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر الذي يحصل بعد البيان . ثم قال : وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان : الأول : أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } والمعنى : وافهموا ما فيه . والثاني : أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه .

المسألة الثانية : قال الجبائي : قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن ، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها ، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { وما يزيدهم إلا نفورا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال الأصم : شبههم بالدواب النافرة ، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعدا وهو كقوله : { فزادتهم رجسا } .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار ، وقالوا : إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفورا ، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه ، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لمزيد النفرة والنبوة عنه ، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة . فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفورا ، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم ، والله أعلم .