مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

ثم قال تعالى : { تسبح له السموات والأرض ومن فيهن } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين : الأول : بالقول كقوله باللسان سبحان الله . والثاني : بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته ، فأما الذي لا يكون مكلفا مثل البهائم ، ومن لا يكون حيا مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني ، لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال ، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني .

واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالما متكلما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيا وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حيا وذلك كفر فإنه يقال : إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالما قادرا متكلما كونه حيا فلم يلزم من كونه تعالى عالما قادرا كونه حيا وذلك جهل وكفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالما قادرا متكلما ، هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ، ومن الناس من قال : إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى ، واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا : دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا . ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم ، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايرا لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته .

والجواب عنه من وجوه :

الوجه الأول : أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم .

إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضا دليل تام على وجود الإله تعالى ، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا المعنى قال تعالى : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } .

والوجه الثاني : هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ، ولهذا المعنى قال تعالى :

{ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } فكان المراد من قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } هذا المعنى .

والوجه الثالث : أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته . ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادرا على الحشر والنشر فكان المراد ذلك . وأيضا فإنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته ، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه ، بل نقول : إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل ، والنبوة والمعاد ، فكان المراد من قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله : { إنه كان حليما غفورا } فذكر الحليم والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم ، وهذا إنما يكون جرما إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل . أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرما ولا ذنبا ، وإذا لم يكن ذلك جرما ولا ذنبا لم يكن قوله : { إنه كان حليما غفورا } لائقا بهذا الموضع ، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه . واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعا آخر من التسبيح . وقالوا : إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله ، فإذا كان كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له من التسبيح ، وقالوا أيضا : إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح ، وإذا كان كونه جمادا لم يمنع من كونه مسبحا فكسره كيف يمنع من ذلك ، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز ، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم : سبحان الله ، فهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله : { تسبح } لفظا واحدا قد استعمل في الحقيقة والمجاز معا ، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور ، والله أعلم .