قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } .
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق ، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين قالوا : إن قوله { أو تسريح بإحسان } إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله : { فإن طلقها } تفسير لقوله : { تسريح بإحسان } وهذا قول مجاهد ، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله : { تسريح بإحسان } الطلقة الثالثة ، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالا ثلاثة أحدها : أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : { فإمساك بمعروف } والثاني : أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة ، وهو المراد بقوله : { أو تسريح بإحسان } والثالث : أن يطلقها طلقة ثالثة ، وهو المراد بقوله : { فإن طلقها } فإذا كانت الأقسام ثلاثة ، والله تعالى ذكر ألفاظا ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة ، فأما إن جعلنا قوله : { أو تسريح بإحسان } عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلوم أن الأول أولى .
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي ، ونظم الآية { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } .
فإن قيل : فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين ؟ .
قلنا : السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك : فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بحكم الخلع ، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم .
المسألة الثانية : مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط : تعتد منه ، وتعقد الثاني ، ويطؤها ، ثم يطلقها ، ثم تعتد منه ، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : تحل بمجرد العقد ، واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة ، أو بالكتاب ، قال أبو مسلم الأصفهاني : الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار .
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة ، قال عثمان بن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة ، وأقول : هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية ، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين ، فإذا قيل : نكح فلان زوجته ، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته ، ثم الزوجة ليست اسما لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسما لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية ، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب .
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا نكح فلان زوجته ، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية ، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة ، تقدم المفرد على المركب ، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية ، إذا ثبت هذا كان قوله : { حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية ، فكل من قال بذلك قال : إنه الوطء ، فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء ، فقوله : { تنكح } يدل على الوطء ، وقوله : { زوجا } يدل على العقد ، وأما قول من يقول : إن الآية غير دالة على الوطء ، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدودا إلى غاية ، وهي قوله : { حتى تنكح } وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله : { زوجا } على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال ، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها ، فطلقها ثلاثا ، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإن ما معه مثل هدبة الثواب ، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل ، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتت أبا بكر فاستأذنت ، فقال : لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله ، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك ، وفي قصة رفاعة نزل قوله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } .
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر ، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة ، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعا وزاجرا .
المسألة الثالثة : قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو اثنتين ، ثم نكحت زوجا آخر وأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة ، وهي التي بقيت له من الطلقات الأولى ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثا كما لو نكحت زوجا بعد الثلاث ، حجة الشافعي أن هذه طلقة ثالثة ، فوجب أن تحصل الحرمة الغليظة ، إنما قلنا إنها طلقة ثالثة لأنها طلقة وجدت بعد الطلقتين ، والطلقة الثالثة موجبة للحرمة الغليظة ، لقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } الآية وقوله : { فإن طلقها } أعم من أن يطلقها الطلقة الثالثة مسبوقا بنكاح غيره ، أو غير مسبوق بنكاح غيره فكان الكل داخلا فيه .
المسألة الرابعة : مذهب الشافعي رضي الله عنه : إذا تزوج بالمطلقة ثلاثا للغير على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما ، فهذا نكاح متعة بأجل مجهول ، وهو باطل ولو تزوجها بشرط أن لا يطلقها إذا أحلها للأول ففيه قولان أحدهما : لا يصح والثاني : يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة ، ولو تزوجها مطلقا معتقدا بأنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به ، وقال مالك والثوري وأحمد : هذا النكاح باطل دليلنا أن الآية تدل على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد ، وقد وجدت فوجب القول بانتهاء الحرمة وحيث حكمنا بفساد النكاح ، فوطئها هل يقع به التحليل قولان والأصح أنه لا يقع به التحليل .
أما قوله تعالى : { فإن طلقها } فالمعنى : إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله : { حتى تنكح زوجا غيره فلا جناح عليهما } أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد ، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع ، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك ، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح ، فهذا تراجع لغوي ، بقي في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول ، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } لأن المقصود من العدة استبراء الرحم ، وهذا المعنى حاصل ههنا ، وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد ، لأن الوطء لو كان معتبرا لكانت العدة واجبة ، وهذه الآية تدل على سقوط العدة ، لأن الفاء في قوله : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا .
المسألة الثانية : قال الخليل والكسائي : موضع { أن يتراجعا } خفض بإضمار الخافض ، تقديره : في أن يتراجعا ، وقال الفراء : موضعه نصب بنزع الخافض .
أما قوله تعالى : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال كثير من المفسرين { إن ظنا } أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله ، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها : أنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني : أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث : أنه بمنزلة قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا ، وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن ، أي متى حصل هذا الظن ، وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله ، حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم .
المسألة الثانية : كلمة { إن } في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول : ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة : بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره ، ثم قال بعد ذلك : { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : { وتلك حدود الله } إشارة إلى ما بينها من التكاليف ، وقوله : { يبينها } إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة ، وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة ، فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو كقوله تعالى : { ليبين للناس ما نزل إليهم } .
المسألة الثانية : قرأ عاصم في رواية أبان { نبينها } بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى .
والمسألة الثالثة : إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها : أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به ، وهو كقوله : { فيه هدى للمتقين } والثاني : أنه خصهم بالذكر كقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } والثالث : يعني به العرب لعلمهم باللسان ، والرابع : يريد من له عقل وعلم ، كقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلا عالما بما يكلفه ، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف ، والخامس : أن قوله : { تلك حدود الله } يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعملوا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه .