مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

ثم قال تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال النحويون { كان } كلمة تستعمل على وجوه أحدها : أن تكون بمنزلة حدث ووقع ، وذلك في قوله : قد كان الأمر ، أي وجد ، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني : أن يخلع منه معنى الحدث ، فتبقى الكلمة مجردة للزمان ، وحينئذ يحتاج إلى الخبر ، وذلك كقوله : كان زيد ذاهبا .

واعلم أني حين كنت مقيما بخوارزم ، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء ، أوردت عليهم إشكالا في هذا الباب فقلت : إنكم تقولون إن { كان } إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلا وهذا محال ، لأن الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان ، فقولك { كان } يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلا كانت تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلا البتة بل كانت حرفا ، وأنتم تنكرون ذلك ، فبقوا في هذا الإشكال زمانا طويلا ، وصنفوا في الجواب عنه كتبا ، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره ههنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد ، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها : أن يكون المعنى : وجد وحدث الشيء كقولك : وجد الجوهر وحدث العرض والثاني : أن يكون المعنى : وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالما فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم ، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة ، وفي الحقيقة فالمفهوم من { كان } في الموضعين هو الحدوث والوقوع ، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه ، فلا جرم كان الاسم الواحد كافيا ، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافيا ، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث ، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالا على وقوع المصدر في الزمان الماضي ، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا : إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر ، وجميع خواص الأفعال ، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية .

المفهوم الثالث : لكان يكون بمعنى صار ، وأنشدوا :

بتيهاء قفر والمطي كأنها *** قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

وعندي أن هذا اللفظ ههنا محمول على ما ذكرناه ، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع ، إلا أنه حدوث مخصوص ، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .

المفهوم الرابع : أن تكون زائدة وأنشدوا :

سراة بني أبي بكر تسامى *** على كان المسومة الجياد

إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول : في { كان } في هذه الآية وجهان الأول : أنها بمعنى وقع وحدث ، والمعنى : وإن وجد ذو عسرة ، ونظيره قوله { إلا أن تكون تجارة حاضرة } بالرفع على معنى : وإن وقعت تجارة حاضرة ، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل : وإن كان ذا عسرة لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة ، فتكون النظرة مقصورة عليه ، وليس الأمر كذلك ، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني : أنها ناقصة على حذف الخبر ، تقديره وإن كان ذو عسرة غريما لكم ، وقرأ عثمان { ذا عسرة } والتقدير : إن كان الغريم ذا عسرة ، وقرئ ( ومن كان ذا عسرة ) .

المسألة الثانية : العسرة اسم من الاعسار ، وهو تعذر الموجود من المال ، يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .

ثم قال تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في الآية حذف ، والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة ، أو فالذي تعاملونه نظرة .

المسألة الثانية : نظرة أي تأخير ، والنظرة الاسم من الانظار ، وهو الإمهال ، تقول : بعته الشيء بنظرة وبانظار ، قال تعالى : { قال رب أنظرنى إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } [ الحجر : 36 ، 37 ، 38 ] .

المسألة الثالثة : قرئ { فنظرة } بسكون الظاء ، وقرأ عطاء ( فناظره ) أي فصاحب الحق أي منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريق النسب ، كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل ، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة .

المسألة الرابعة : الميسرة مفعلة من اليسر واليسار ، الذي هو ضد الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ، ومنه يقال : أيسر الرجل فهو موسر ، أي صار إلى اليسر ، فالميسرة واليسر والميسور الغنى .

المسألة الخامسة : قرأ نافع { إلى ميسرة } بضم السين والباقون بفتحها ، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة ، والمشرفة ، والمشربة ، والمسربة ، والفتح أشهر اللغتين ، لأنه جاء في كلامهم كثيرا .

المسألة السادسة : اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل ، فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .

القول الثاني : وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين : إنها عامة في كل دين ، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال : { وإن كان ذو عسرة } ولم يقل : وإن كان ذا عسرة ، ليكون الحكم عاما في كل المفسرين ، قال القاضي : والقول الأول أرجح ، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } من غير بخس ولا نقص ، ثم قال في هذه الآية : وإن كان من عليه المال معسرا وجب إنظاره إلى وقت القدرة ، لأن النظرة يراد بها التأخر ، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر ، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى ، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم .

المسألة السابعة : اعلم أنه لابد من تفسير الإعسار ، فنقول : الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه ، فلهذا قلنا : من وحد دارا وثيابا لا يعد في ذوي العسرة ، إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم ، واختلفوا إذا كان قويا هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره ، فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله ، وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضا إذا كان معسرا ، وقد بذل غيره ما يؤديه ، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك ، فأما من له بضاعة كسدت عليه ، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ، ويؤديه في الدين .

المسألة الثامنة : إذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار ، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار ، واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم ، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض ، أو لا يكون كذلك ، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض ، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان ، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر .

ثم قال تعالى : { وأن تصدقوا خير لكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم { تصدقوا } بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها ، والأصل فيه : أن تتصدقوا بتاءين ، فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفا ، ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى .

المسألة الثانية : في التصدق قولان الأول : معناه : وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره ، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به ، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما ، وهو كقوله { وأن تعفوا أقرب للتقوى } [ البقرة : 237 ] والثاني : أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام « لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة » وهذا القول ضعيف ، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ، ولأن قوله { خير لكم } لا يليق بالواجب بل بالمندوب .

المسألة الثالثة : المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة .

ثم قال : { إن كنتم تعلمون } وفيه وجوه الأول : معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه ، فجعل العمل من لوازم العلم ، وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث : إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم .