مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذۡ يَقُولُ أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡمٗا} (104)

الصفة الثالثة : من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى : { يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : يتخافتون أي يتسارون . يقال : خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير قوله تعالى : { فلا تسمع إلا همسا } وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن المراد بقوله : { إن لبثتم } اللبث في الدنيا أو في القبر ، فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا ، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين } فإن قيل : إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا ، أو ما نسوا ذلك ، والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه . والثاني : غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه : أحدها : لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا وما ذكروا إلا القليل فقالوا : ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال ، والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله :{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } .

وثانيها : أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم : ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم : بل ما لبثنا إلا يوما واحدا أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم ، وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد . وثالثها : أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار . ورابعها : أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال : { إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } . القول الثاني : أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } وقال : { الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث } فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية ، أما من لم يجوز ، قال : إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان ، فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام ، وقال آخرون : إنه يوم واحد ، فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى ، تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب .

المسألة الثالثة : الأكثرون على أن قوله : { إن لبثتم إلا عشرا } أي عشرة أيام ، فيكون قول من قال : { إن لبثتم إلا يوما } أقل وقال مقاتل : { إن لبثتم إلا عشرا } أي عشر ساعات كقوله : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر ، والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت .