مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

المنة الرابعة : قوله : { إذ تمشي أختك } واعلم أن العامل في إذ تمشى ألقيت أو تصنع ، يروى أنه لما فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها لأن الله تعالى قد حرم عليه المراضع غير أمه اضطروا إلى تتبع النساء فلما رأت ذلك أخت موسى جاءت إليهم متنكرة فقالت : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } ثم جاءت بالأم فقبل ثديها فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير .

أما قوله تعالى : { فرجعناك إلى أمك } أي رددناك ، وقال في موضع آخر : { فرددناه إلى أمه } وهو كقوله : { قال رب ارجعون } أي ردوني إلى الدنيا ، أما قوله : { كي تقر عينها ولا تحزن } فالمراد أن المقصود من ردك إليها حصول السرور لها وزوال الحزن عنها ، فإن قيل : لو قال كي لا تحزن وتقر عينها كان الكلام مفيدا لأنه لا يلزم من نفي الحزن حصول السرور لها ، وأما لما قال أولا كي تقر عينها كان قوله بعد ذلك : { ولا تحزن } فضلا لأنه متى حصل السرور وجب زوال الغم لا محالة ، قلنا : المراد أنه تقر عينها بسبب وصولك إليها فيزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك . والمنة الخامسة : قوله : { وقتلت نفسا فنجيناك من الغم } فالمراد به وقتلت بعد كبرك نفسا وهو الرجل الذي قتله خطأ بأن وكزه حيث استغاثه الإسرائيلي عليه وكان قبطيا فحصل له الغم من وجهين ، أحدهما : من عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون منه ما حكى الله تعالى عنه : { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } والآخر من عقاب الله تعالى حيث قتله لا بأمر الله فنجاه الله تعالى من الغمين ، أما من فرعون فحين وفق له المهاجرة إلى مدين وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك . المنة السادسة : قوله : { وفتناك فتونا } وفيه أبحاث :

البحث الأول : في قوله : { فتونا } وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقا وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } ، والثاني : أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن وههنا سؤالان . السؤال الأول : إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله : { وفتناك فتونا } . الجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن الفتنة تشديد المحنة ، يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى : { فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } وقال تعالى : { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم . وثانيها : { فتناك فتونا } أي خلصناك تخليصا من قولهم : فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير ابن عباس عن الفتون فقال : نستأنف له نهارا يا ابن جبير . ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الإرتضاع من الأجانب ، ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه ، ثم قصة قتل القبطي ، ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السلام ، ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسه بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير .

السؤال الثاني : هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقا من قوله : { وفتناك فتونا } والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي . المنة السابعة : قوله تعالى : { فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى } واعلم أن التقدير : { وفتناك فتونا } فخرجت خائفا إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم ، أما مدة اللبث فقال أبو مسلم : إنها مشروحة في قوله تعالى : { ولما توجه تلقاء مدين } إلى قوله { فلما قضى موسى الأجل } وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى : { على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك } وقال وهب : لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانيا وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته ، والآية تدل على أنه عليه السلام لبث عنده عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر ، واعلم أن قوله : { فلبث سنين في أهل مدين } بعد قوله : { وفتناك فتونا } كالدلالة على أن لبثه في مدين من الفتون وكذلك كان ، فإنه عليه السلام تحمل بسبب الفقر والغربة محنا كثيرة ، واحتاج إلى أن آجر نفسه ، أما قوله تعالى : { ثم جئت على قدر يا موسى } فلا بد من حذف في الكلام لأنه على قدر أمر من الأمور ، وذكروا في ذلك المحذوف وجوها . أحدها : أنه سبق في قضائي وقدري أن أجعلك رسولا لي في وقت معين عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر لا قبله ولا بعده ، ومنه قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، وثانيها : على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة . وثالثها : أن القدر هو الموعد فإن ثبت أنه تقدم هذا الموعد صح حمله عليه ، ولا يمتنع ذلك لاحتمال أن شعيبا عليه السلام أو غيره من الأنبياء كانوا قد عينوا ذلك الموعد ، فإن قيل : كيف ذكر الله تعالى مجيء موسى عليه السلام في ذلك الوقت من جملة مننه عليه ، قلنا : لأنه لولا توفيقه له لما تهيأ شيء من ذلك .