مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (32)

قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم } .

الحكم الثامن : ما يتعلق بالنكاح

اعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بغض الأبصار وحفظ الفروج بين من بعد أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، فبين تعالى بعد ذلك طريق الحل فقال : { وأنكحوا الأيامى منكم } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا ، وقال النضر بن شميل الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك ، تقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض ، وقال الشاعر :

فإن تنكحى انكح وإن تتأيمى *** وإن كنت أفتى منكموا أتأيم

المسألة الثانية : قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى } أمر وظاهر الأمر للوجوب على ما بيناه مرارا ، فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج مولاته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلا بولي ، إما لأن كل من أوجب ذلك على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية ، وإما لأن المولية لو فعلت ذلك لفوتت على الولي التمكن من أداء هذا الواجب وأنه غير جائز ، وإما لتطابق هذه الآية مع الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير » قال أبو بكر الرازي هذه الآية وإن اقتضت بظاهرها الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد به الإيجاب ، ويدل عليه أمور . أحدها : أنه لو كان ذلك واجبا لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة إليه ، فلما وجدنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء ، فلم ينكروا عدم تزويجهن ثبت أنه ما أريد به الإيجاب . وثانيها : أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزوج لم يكن للولي إجبارها عليه . وثالثها : اتفاق الكل على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى ، فدل على أنه غير واجب في الجميع بل ندب في الجميع . ورابعها : أن اسم الأيامى ينتظم فيه الرجال والنساء وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء والجواب : أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة ، فوجب أن يبقى حجة فيما إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم وجه الكلام .

المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله ، الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها ، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي بتزويجها ، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا بغير رضاها ، لعموم الآية . قال أبو بكر الرازي قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى } لا يختص بالنساء دون الرجال على ما بينا فلما كان الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء ، وأيضا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر بقوله : «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صمتها » وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر ، فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها والجواب : أما الأول فهو تخصيص للنص وهو لا يقدح في كونه حجة والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده أمره بخلاف المرأة ، فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها في التزويج أظهر ، وأيضا فلفظ الأيامى وإن تناول الرجال والنساء ، فإذا أطلق لم يتناول إلا النساء ، وإنما يتناول الرجال إذا قيد ، وأما الثاني : ففي تخصيص الآية بخبر الواحد كلام مشهور .

المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمه الله العم والأخ يليان تزويج البنت الصغيرة ، ووجه الاستدلال بالآية كما تقدم .

المسألة الخامسة : قال الشافعي رحمه الله ، الناس في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن كذلك ، ولكن لا يجب أن ينكح ، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإن الصوم له وجاء » ، أما الذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له أن ينكح ، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : النكاح أفضل من التخلي للعبادة ، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه . أحدها : قوله تعالى : { وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن ، ولا يقال هو الذي لا يأتي النساء مع العجز عنهن ، لأن مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز ، وإذا ثبت أنه مدح في حق يحيى وجب أن يكون مشروعا في حقنا لقوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ولا يجوز حمل الهدى على الأصول لأن التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع . وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام : «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة » ويتمسك أيضا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن » . وثالثها : أن النكاح مباح لقوله عليه الصلاة والسلام : «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح » ويحمل الأحب على الأصلح في الدنيا لئلا يقع التناقض بين كونه أحب وبين كونه مباحا ، والمباح ما استوى طرفاه في الثواب والعقاب ، والمندوب ما ترجح وجوده على عدمه فتكون العبادة أفضل . ورابعها : أن النكاح ليس بعبادة بدليل أنه يصح من الكافر والعبادة لا تصح منه ، فوجب أن تكون العبادة أفضل منه لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } والاشتغال بالمقصود أولى . وخامسها : أن الله تعالى سوى بين التسري والنكاح ثم التسري مرجوح بالنسبة إلى العبادة ومساوي المرجوح مرجوح ، فالنكاح مرجوح ، وإنما قلنا إنه سوى بين التسري والنكاح لقوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } وذكر كلمة أو للتخيير بين الشيئين ، والتخيير بين الشيئين أمارة التساوي ، كقول الطبيب للمريض كل الرمان أو التفاح ، وإذا ثبت الاستواء فالتسري مرجوح ، ومساوي المرجوح مرجوح ، فالنكاح يجب أن يكون مرجوحا . وسادسها : أن النافلة أشق فتكون أكثر ثوابا بيان أنها أشق أن ميل الطباع إلى النكاح أكثر ، ولولا ترغيب الشرع لما رغب أحد في النوافل ، وإذا ثبت أنها أشق وجب أن تكون أكثر ثوابا لقوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل العبادات أحمزها » وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : «أجرك على قدر نصبك » . وسابعها : لو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب مع أن النوافل أشق منه لما كانت النوافل مشروعة . لأنه إذا حصل طريقان إلى تحصيل المقصود وكانا في الإفضاء إلى المقصود سببين وكان أحدهما شاقا والآخر سهلا ، فإن العقلاء يستقبحون تحصيل ذلك المقصود بالطريق الشاق مع المكنة من الطريق السهل ، ولما كانت النوافل مشروعة علمنا أنها أفضل . وثامنها : لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة والزراعة أولى من النافلة بالقياس على النكاح والجامع كون كل واحد منهما سببا لبقاء هذا العالم ومحصلا لنظامه . وتاسعها : أجمعنا على أنه يقدم واجب العبادة على واجب النكاح ، فيقدم مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب . وعاشرها : أن النكاح اشتغال بتحصيل اللذات الحسية الداعية إلى الدنيا ، والنافلة قطع العلائق الجسمانية وإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر ؟ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة » فرجح الصلاة على النكاح ، حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه . الأول : أن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعا للضرر عن النفس ، والنافلة جلب النفع ودفع الضرر أولى من جلب النفع . الثاني : أن النكاح يتضمن العدل والعدل أفضل من العبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : «لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة » الثالث : النكاح سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام : «من رغب عن سنتي فليس مني » وقال في الصلاة وإنها خير موضوع : «فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل » فوجب أن يكون النكاح أفضل .

المسألة السادسة : قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى } وإن كانت تتناول جميع الأيامى بحسب الظاهر لكنهم أجمعوا على أنه لابد فيها من شروط ، وقد تقدم شرحها في قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } .

أما قوله تعالى : { منكم } فقد حمله كثير من المفسرين على أن المراد هم الأحرار لينفصل الحر من العبد ، وقال بعضهم بل المراد بذلك من يكون تحت ولاية المأمور من الولد أو القريب ، ومنهم من قال الإضافة تفيد الحرية والإسلام .

أما قوله تعالى : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : ظاهر أنه أيضا أمر للسادة بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين ، وأنه لا فرق بين هذا الأمر وبين الأمر بتزويج الأيامى في باب الوجوب ، لكنهم اتفقوا على أنه إباحة أو ترغيب ، فأما أن يكون واجبا فلا ، وفرقوا بينه وبين تزويج الأيامى بأن في تزويج العبد التزام مؤنة وتعطيل خدمة ، وذلك ليس بواجب على السيد وفي تزويج الأمة استفادة مهر وسقوط نفقة ، وليس ذلك بلازم على المولى .

المسألة الثانية : إنما خص الصالحين بالذكر لوجوه . الأول : ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم . الثاني : لأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم [ و ] ينزلونهم منزلة الأولاد في المودة ، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم ، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك . الثالث : أن يكون المراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج . الرابع : أن يكون المراد الصلاح في نفس النكاح بأن لا تكون صغيرة فلا تحتاج إلى النكاح .

المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه ، وإنما يجوز أن يتولى المولى تزويجه ، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة أن يتولى ذلك نفس السيد ، فأما الإماء فلا شبهة في أن المولى يتولى تزويجهن خصوصا على قول من لا يجوز النكاح إلا بولي .

أما قوله تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : الأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج . بل المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل الله ما يغنيهم ، والمال غاد ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف ، وروي عن قدماء الصحابة ما يدل على أنهم رأوا ذلك وعدا ، عن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ، وعن عمر وابن عباس مثله قال ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح ، وشكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال : «عليك بالباءة » وقال طلحة بن مطرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع لكم في أخلاقكم ويزيد في مروءتكم ، فإن قيل : فنحن نرى من كان غنيا فيتزوج فيصير فقيرا ؟ قلنا الجواب عنه من وجوه . أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله إن الله عليم حكيم } المطلق محمول على المقيد ، وثانيها : أن اللفظ وإن كان عاما إلا أنه يكون خاصا في بعض المذكورين دون البعض وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون . وثالثها : أن يكون المراد الغنى بالعفاف فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن الوقوع في الزنا .

المسألة الثانية : من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم فتقتضي الآية بيان أن العبد قد يكون فقيرا وقد يكون غنيا ، فإن دل ذلك على الملك ثبت أنهما يملكان ، ولكن المفسرون تأولوه على الأحرار خاصة . فكأنهم قالوا هو راجع إلى الأيامى ، أما إذا فسرنا الغنى بالعفاف فالاستدلال به على ذلك ساقط .

أما قوله : { والله واسع عليم } فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه ، لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها ، وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق .