مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗ لَّا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ وَلَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا وَلَا يَمۡلِكُونَ مَوۡتٗا وَلَا حَيَوٰةٗ وَلَا نُشُورٗا} (3)

قوله تعالى : { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } .

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه . أحدها : أنها ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد . وثانيها : أنها مخلوقة والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا . وثالثها : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا ، ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضا نفعا ، ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته . ورابعها : أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا ، أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانيا في زمان المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها ؟ وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة ، وههنا سؤالات :

الأول : قوله : { واتخذوا من دونه آلهة } هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة ؟ والجواب : قال القاضي : بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع ، فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام ، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لمعبودهم كثرة ، ولقائل أن يقول قوله { واتخذوا } صيغة جمع وقوله { آلهة } جمع ، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد ، فلم يكن كون معبود النصارى واحدا مانعا من دخوله تحت هذا اللفظ .

السؤال الثاني : احتج بعض أصحابنا بقوله : { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فقال إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئا ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان العبد خالقا لكان معبودا إلها ، أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى . وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى ، ثم قال : وقد قال تعالى : { ألهم أرجل يمشون بها } في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد ؟ فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم ، وقد قال تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين } هذا كله كلام الكعبي والجواب : قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد ، قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازا في الله تعالى ، فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد ؟ أما قوله تعالى : { ألهم أرجل يمشون بها } فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته . وأما قوله تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين } فقد تقدم الكلام عليه .

واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين : أحدهما أنهم ليسوا بخالقين ، والثاني أنهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقا إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلها معبودا .

السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على البعث ؟ الجواب : نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية .