مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفرقان

{ بسم الله الرحمان الرحيم } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } .

اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ، ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين ، ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدما على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج : تبارك ، تفاعل من البركة ، والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان : أحدهما : تزايد خيره وتكاثر ، وهو المراد من قوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } . والثاني : تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهو المراد من قوله : { ليس كمثله شيء } وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته ، فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه ، وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات ، وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضروريا أو كسبيا أو تصورا أو تصديقا وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال ، وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله ، وقال آخرون : أصل الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء ، وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل ، ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقي لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى .

المسألة الثانية : قال أهل اللغة : كلمة ( الذي ) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، وعند هذا يتوجه الإشكال ، وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ ( الذي ) ؟ وجوابه : أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزا ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم .

المسألة الثالثة : لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبين الحلال والحرام ، أو لأنه فرق في النزول كما قال : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } وهذا التأويل أقرب لأنه قال : { نزل الفرقان } ولفظة ( نزل ) تدل على التفريق ، وأما لفظة ( أنزل ) فتدل على الجمع ، ولذلك قال في سورة آل عمران : { نزل عليك الكتاب بالحق وأنزل التوراة والإنجيل } واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولا { تبارك } ومعناه كثرة الخير والبركة ، ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات ، لكن القرآن ليس إلا منبعا للعلوم والمعارف والحكم ، فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيرا وبركة .

المسألة الرابعة : لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال : { لقد أنزلنا إليكم } ، { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } ، وقوله : { ليكون للعالمين نذيرا } فالمراد ليكون هذا العبد نذيرا للعالمين ، وقول من قال : إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : { إن هذا القرءان يهدي } فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، وإذا وصف به القرآن فهو مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب ، ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام . الأول : أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولا إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا ، ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض . الثاني : أن لفظ { العالمين } يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة ، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل . الثالث : قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل ، لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيرا للكل ، وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم } الآية . الرابع : لقائل أن يقول إن قوله { تبارك } كما دل على كثرة الخير والبركة لابد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سببا لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع ؟ جوابه : أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد ، وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيرا كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ، وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر البتة شيئا من منافع الدنيا .