فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

{ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } . ربنا ينادي أهل الإيمان أن يتحروا العدل والحق وأن يثبتوا عليه لا يصرفهم عنه صارف ، فبالحق أنشىء الكون علويه وسفليه ( ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق . . ) ( {[1561]} ) ، وبه جاء وحي الكتاب المبين ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل . . ) ( {[1562]} ) ، وشاء ربنا الحكيم أن تحمل الرسل البرهان وتتلقى شرع الله الذي حرم الظلم والطغيان ، ذلك إذ هو سبحانه يعلم أن هداية الرسل ونور الوحي والكتب يبلغان بالناس التخلق بالعدل : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . . ) ( {[1563]} ) ؛ مما يقول قتادة : وإن الله رضي العدل لنفسه ، والإقساط ، والعدل ميزان الله في الأرض ، به يرد الله من الشديد على الضعيف ، ومن الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحق ، وبالعدل يُصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويرد المعتدي ، ويوبخه تعالى ربنا تبارك ؛ وبالعدل يصلح الناس ؛ وفي المأثور أن عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أجدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض ؛ وعن الراغب : أنه سبحانه نبه بلفظ القوامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي ، بل يجب أن تكون على الدوام ، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة ، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا ؛ { شهداء لله } وكونوا مؤدين شهادتكم لمرضاة ربكم المعبود بحق ، { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا } نقل ابن جرير عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة ، قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله : { يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدان والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } الآية ، فلم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دخل الناس بعد ذلك ، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، وتركت شهادة مَن يُتهم إذا كانت من أقربائهم ، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة ، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان ؛ { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } ينهى الله عز وجل علاه عن اتباع الهوى فإن اتباعه سيجعلهم يعدلون عن الحق ويميلون ، - واحتمال آخر وهو أن يراد : اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا ، أي : حتى تتصفوا بصفة العدالة ، لأن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ، { وإن تلووا } . . من لوى إذا فتل ، . . ، والمعنى : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل { أو تعرضوا } عن الشهادة ، . . . واعلم أن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإيمان- ( {[1564]} ) ، { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فمن أدى الشهادة على وجهها أجر ، ومن بدلها أو كتمها فهو مزور آثم قلبه .


[1561]:سورة الأحقاف. من الآية 3.
[1562]:سورة الإسراء. من الآية 105.
[1563]:سورة الحديد. من الآية 25.
[1564]:مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن.