فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين } صيغة مبالغة أي ليتكرر ويدم منكم القيام { بالقسط } وهو العدل في شهادتكم وفي جميع أموركم ، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة قواما { شهداء } بالحق ، وقيل بالوحدانية جمع شهيد قياسا أو شاهد على غير قياس وهو خبر لكان أوحال ، قال ابن عطية : والحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط والأول أولى ، و { لله } أي لمرضاته وثوابه .

{ ولو على أنفسكم } متعلق بشهداء ، هذا المعنى هو الظاهر من الآية وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق { أو الوالدين والأقربين } أي من ذوي رحمه وأقاربه ، فأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير ، وكذلك الشهادة على الأقربين ، وذكر الأبوين لوجوب برهما وكونهما أحب الخلق إليه .

ثم ذكر الأقربين لأنهم مظنة المودة والتعصب ، فإذا شهدوا هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه ، وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحاق ضرر منه على نفسه ، وهو بعيد .

{ إن يكن } المشهود عليه من الأقارب أو الأجانب { غنيا } فلا يراعي لأجل غنائه استجلابا لنفعه أو استدفاعا لضره فتترك الشهادة عليه { أو فقيرا } فلا يراعي لفقره رحمة له وإشفاقا عليه فتترك الشهادة عليه ، وقرأ ابن مسعود : إن يكن غني أو فقير على إن كان تامة ، وإنما قال : { فالله أولى بهما } ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما .

وقيل رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ ، وقال الأخفش : تكون أو بمعنى الواو ، إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله تعالى { وله أخ أوأخت فلكل واحد منهما السدس } وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا ، وقرأ أبي فالله أولى بهم .

{ فلا تتبعوا الهوى } في الشهادة { أن تعدلوا } إما من العدل كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ، واختاره الزمخشري أو من العدول واختاره القاضي كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا عنه .

{ وإن تلووا } ما اللي يقال لويت فلانا حقه دفعت عنه والمراد لي الشهادة ميلا إلى المشهود عليه ، وقرأ الكوفيون وإن تلوا من الولاية أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق ، وقد قيل أن هذه القراءة تفيد معنيين الولاية والإعراض ، والقراءة الأولى تفيد معنى واحدا وهو الإعراض .

وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن لأنه لا معنى للولاية هنا ، قال النحاس : وغيره وليس يلزم هذا ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا ، والمعنى ما قال ابن عباس : يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها .

{ أو تعرضوا } عن تأدية الشهادة من الأصل ، وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة ، وقيل هو خطاب مع الحكام أن يميلوا مع أحد الخصمين أو يعرضوا عنه بالكلية { فإن الله كان بما تعملون } من اللي والإعراض أو من كل عمل { خبيرا } وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما يجب عليه .

وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه ، وقيل هي خاصة باليهود ، قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يهابون غنيا لغنائه ولا يرحمون مسكينا لمسكنته ، وقال الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر{[553]} .


[553]:وروى ابن جرير9/403 عن السدي "أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان (ميله) مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت هذه الآية.