مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

قوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ، ثم يهجرها ، ثم يضربها ، بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال : { وإن خفتم شقاق بينهما } إلى آخر الآية وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : { خفتم } أي علمتم . قال : وهذا بخلاف قوله : { واللاتي تخافون نشوزهن } فإن ذلك محمول على الظن ، والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز ، فقد حصل العلم بكونها ناشزة : فوجب حمل الخوف ههنا على العلم . طعن الزجاج فيه فقال : { خفتم } ههنا بمعنى أيقنتم خطأ ، فإنا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين .

وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما ، إلا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك ، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى . ويمكن أن يقال : وجود الشقاق في الحال معلوم ، ومثل هذا لا يحصل منه خوف ، إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا ؟ فالفائدة في بعث الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فإن ذلك محال ، بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل .

المسألة الثانية : للشقاق تأويلان : أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه . الثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .

المسألة الثالثة : قوله : { شقاق بينهما } معناه : شقاقا بينهما ، إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها ، يقال : يعجبني صوم يوم عرفة ، وقال تعالى : { بل مكر الليل والنهار } .

المسألة الرابعة : المخاطب بقوله : { فابعثوا حكما من أهله } من هو ؟ فيه خلاف : قال بعضهم إنه هو الإمام أو من يلي من قبله ، وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه ، وقال آخرون : المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله : { خفتم } خطاب للجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية ، فوجب حمله على الكل ، فعلى هذا يجب أن يكون قوله : { فإن خفتم } خطابا لجميع المؤمنين . ثم قال { فابعثوا } فوجب أن يكون هذا أمرا لآحاد الأمة بهذا المعنى ، فثبت أنه سواء وجد الإمام أو لم يوجد ، فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للإصلاح . وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ، ولكل أحد أن يقوم به .

المسألة الخامسة : إذا وقع الشقاق بينهما ، فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها ، أو يشكل ، فإن كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه ، وإن كان منه ، فإن كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى ، أو تسرى بجارية ، عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق ، فإن قبلت وإلا كان نشوزا ، وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب ، وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها ، فالقول أيضا ما قلناه .

المسألة السادسة : قال الشافعي رضي الله عنه : المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين ، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها ، لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب ، وأشد طلبا للصلاح ، فإن كانا أجنبيين جاز . وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح ، أو في المفارقة ، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع .

المسألة السابعة : هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما ، مثل أن يطلق حكم الرجل ، أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها ؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما : يجوز ، وبه قال مالك واسحق . والثاني : لا يجوز ، وهو قول أبي حنيفة . وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه ، وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ، ومع كل واحد منهما جمع من الناس ، فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تعرفان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه . فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به . قال الشافعي رضي الله عنه : وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل .

أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال : عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وأقل ما في قوله : عليكما ، أن يجوز لهما ذلك .

وأما دليل القول الثاني : أن الزوج لما لم يرض توقف على ، ومعنى قوله : كذبت ، أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي . ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين . والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم ، ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين ، لم يضف إليهما إلا الإصلاح ، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما .

المسألة الثامنة : قوله : { وإن خفتم شقاق بينهما } أي شقاقا بين الزوجين ، ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما ، وهو الرجال والنساء .

ثم قال تعالى : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في قوله : { إن يريدا } وجوه : الأول : إن يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير . الثاني : إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . الثالث : إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . الرابع : إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ، ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه .

المسألة الثانية : أصل التوفيق الموافقة ، وهي المساواة في أمر من الأمور ، فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة ، والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى ، والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين .

ثم قال تعالى : { إن الله كان عليما خبيرا } والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق .

النوع التاسع : من التكاليف المذكورة في هذه السورة .