قوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا } .
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ، ثم يهجرها ، ثم يضربها ، بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال : { وإن خفتم شقاق بينهما } إلى آخر الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : { خفتم } أي علمتم . قال : وهذا بخلاف قوله : { واللاتي تخافون نشوزهن } فإن ذلك محمول على الظن ، والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز ، فقد حصل العلم بكونها ناشزة : فوجب حمل الخوف ههنا على العلم . طعن الزجاج فيه فقال : { خفتم } ههنا بمعنى أيقنتم خطأ ، فإنا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين .
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما ، إلا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك ، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى . ويمكن أن يقال : وجود الشقاق في الحال معلوم ، ومثل هذا لا يحصل منه خوف ، إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا ؟ فالفائدة في بعث الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فإن ذلك محال ، بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل .
المسألة الثانية : للشقاق تأويلان : أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه . الثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .
المسألة الثالثة : قوله : { شقاق بينهما } معناه : شقاقا بينهما ، إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها ، يقال : يعجبني صوم يوم عرفة ، وقال تعالى : { بل مكر الليل والنهار } .
المسألة الرابعة : المخاطب بقوله : { فابعثوا حكما من أهله } من هو ؟ فيه خلاف : قال بعضهم إنه هو الإمام أو من يلي من قبله ، وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه ، وقال آخرون : المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله : { خفتم } خطاب للجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية ، فوجب حمله على الكل ، فعلى هذا يجب أن يكون قوله : { فإن خفتم } خطابا لجميع المؤمنين . ثم قال { فابعثوا } فوجب أن يكون هذا أمرا لآحاد الأمة بهذا المعنى ، فثبت أنه سواء وجد الإمام أو لم يوجد ، فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للإصلاح . وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ، ولكل أحد أن يقوم به .
المسألة الخامسة : إذا وقع الشقاق بينهما ، فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها ، أو يشكل ، فإن كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه ، وإن كان منه ، فإن كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى ، أو تسرى بجارية ، عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق ، فإن قبلت وإلا كان نشوزا ، وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب ، وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها ، فالقول أيضا ما قلناه .
المسألة السادسة : قال الشافعي رضي الله عنه : المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين ، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها ، لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب ، وأشد طلبا للصلاح ، فإن كانا أجنبيين جاز . وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح ، أو في المفارقة ، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع .
المسألة السابعة : هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما ، مثل أن يطلق حكم الرجل ، أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها ؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما : يجوز ، وبه قال مالك واسحق . والثاني : لا يجوز ، وهو قول أبي حنيفة . وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه ، وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ، ومع كل واحد منهما جمع من الناس ، فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تعرفان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه . فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به . قال الشافعي رضي الله عنه : وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل .
أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال : عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وأقل ما في قوله : عليكما ، أن يجوز لهما ذلك .
وأما دليل القول الثاني : أن الزوج لما لم يرض توقف على ، ومعنى قوله : كذبت ، أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي . ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين . والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم ، ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين ، لم يضف إليهما إلا الإصلاح ، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما .
المسألة الثامنة : قوله : { وإن خفتم شقاق بينهما } أي شقاقا بين الزوجين ، ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما ، وهو الرجال والنساء .
ثم قال تعالى : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله : { إن يريدا } وجوه : الأول : إن يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير . الثاني : إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . الثالث : إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . الرابع : إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ، ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه .
المسألة الثانية : أصل التوفيق الموافقة ، وهي المساواة في أمر من الأمور ، فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة ، والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى ، والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين .
ثم قال تعالى : { إن الله كان عليما خبيرا } والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.