مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } وفيه سؤال : وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة ، فكيف يجوز هذا القول عنهم ؟ وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم ، فكيف يجوز هذا النقل عنهم ؟

أجاب المفسرون عنه من وجوه : الأول : أن هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير نحن أبناء رسل الله ، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله ، ونظيره قوله { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } والثاني : أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضا على من يتخذ إبنا ، واتخاذه ابنا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة ، فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم ، لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله . الثالث : أن اليهود لما زعموا أن عزيرا ابن الله ، والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله ، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم ، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله ، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنسانا آخر فقد يقولون : نحن ملوك الدنيا ، ونحن سلاطين العالم ، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا ، والرابع : قال ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا : كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه ، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة ، وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم : اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .

ثم إنه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } وفيه سؤال ، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم ، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه ، والإشكال عليه أن يقال : إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة ، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله ، ثم إنهم ما خلوا عن محن الدنيا . انظروا إلى وقعة أحد ، وإلى قتل الحسن والحسين ، وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك . ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب ، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيا ، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعا .

والجواب من وجوه : الأول : أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا ، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول : لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال . الثاني : أن موضع الإلزام هو عذاب الآخرة ، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } والثالث : المراد بقوله { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فلم مسخكم ، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، إلا أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة ، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون : لا نسلم أنه تعالى يعذبنا ، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا .

ثم قال تعالى : { بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له ، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه ، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم .

وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد ، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكم ، وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكما أن قوله { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } إبطال لقول اليهود . فبأن يكون إبطالا لقول المعتزلة أولى وأكمل .

ثم قال تعالى : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقا واجبا ؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينا . إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا .

ثم قال تعالى : { وإليه المصير } أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال { والأمر يومئذ لله } .