مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ} (16)

قوله تعالى : { ءاخذين ما ءاتاهم ربهم } فيه مسائل ولطائف ، أما المسائل :

فالأولى منها : ما معنى آخذين ؟ نقول فيه وجهان ( أحدهما ) قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . ( ثانيها ) آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى : { ويأخذ الصدقات } أي يقبلها ، وهذا ذكره الزمخشري وفيه ( وجه ثالث ) وهو أن قوله : { في جنات } يدل على السكنى فحسب وقوله : { ءاخذين } يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكا لها ، وكذلك يقال لمن اشترى دارا أو بستانا أخذه بثمن قليل أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبض حسا ولا قبول برضا ، وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك ، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله : { ءاتاهم } يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحا ، وإنما كان بإعطاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه { ما } راجعة إلى الجنات والعيون .

وقوله : { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان ، كما قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى } بلام الملك وهي الجنة .

المسألة الثانية : { ءاخذين } حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ، ويوافق المعنى لأن قوله : { ءاتاهم } ينبئ عن الانقراض وقوله : { يؤتيهم } تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ، ولاسيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول ، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس ؟ نقول : أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم ، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملك اليوم ، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيرا مما أتاه ، ولا ينافي ذلك كونه داخلا على تلك الهيئة ، يقول القائل : جئتك خائفا فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصرا على ما آتاهم من قبل ، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم ، وقوله تعالى : { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة يس .

المسألة الثالثة : { ذلك } إشارة إلى ماذا ؟ نقول : يحتمل وجهين : ( أحدهما ) قبل دخولهم لأن قوله تعالى : { في جنات } فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا ( ثانيهما ) قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها ، وفيه وجوه أخر ، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم وأما اللطائف فقد سبق بعضها ، ومنها أن قوله تعالى : { إن المتقين } لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنوا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ، ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا . ( اللطيفة الثانية ) أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك ، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } وقيل في تفسير { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان .