اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ} (16)

قوله : «آخِذِينَ » حال من الضمير في قوله : «جَنَّاتٍ » و«مَا آتَاهُمْ » يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية ، وقيل : مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً ، لاختلاف الزمانين{[52729]} .

وجعل الجار خبراً ، والصفة فضلة ، وعكس هذا في قوله تعالى : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } ، قيل : لأن الخبر مقصور الجملة ، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم ، لأن المؤمن قد يدخل النار ، ولكن لا بد من خروجه ، وأما آية المتقين ، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها ، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً{[52730]} .

فصل

اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة ، قال تعالى : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] و[ محمد : 15 ] وأخرى جمعها كقوله ههنا : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ }{[52731]} وتارة ثَنَّاها ، قال تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمان : 46 ] ، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد ، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمان .

قال ابن الخطيب : غيرَ أنَّا نقول ههنا : إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة ، لأنه دون الموعود ، وقوله : «وَعُيُونٍ » يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ ؛ فالمعنى في خلال العيون ، أي بين الأنهار كقوله : «في جَنَّاتٍ » معناه بين الجنات وفي خلالها ؛ لأن الجنة هي الأحجار ، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك : فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة{[52732]} .

ومعنى : «آخذين » أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله ، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . وقيل : معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ، قاله الزمخشري{[52733]} . وقال ابن الخطيب : وفيه وجه ثالث ، وهو أن قوله : فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال : آخِذينَ بلادَ كذا ، أو قَلْعَة كذا ، أي دخلها متملّكاً لها ، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى .

وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من{[52734]} يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله . وقوله : «آتاهُمْ » لبيان ( أن ) {[52735]} أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً ، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى . وعلى هذا الوجه «ما » راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون .

وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا ، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة ، وإما لإيتاء الله ، وإما ليوم الدين ، والإحسان هو قول لا إله إلا الله ؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله ، وفي قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] وقوله : { هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمان : 60 ] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله .


[52729]:بالمعنى من البحر المحيط 8/135.
[52730]:وانظر: التبيان لأبي البقاء 1179.
[52731]:تلك الآية وغيرها.
[52732]:وانظر: تفسير الرازي 28/300.
[52733]:الكشاف 4/15.
[52734]:في الرازي: أو ضعف يسترد منه ذلك.
[52735]:سقط من ب.