البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ أَلۡقُواْۖ فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَآءُو بِسِحۡرٍ عَظِيمٖ} (116)

{ قال ألقوا } أعطاهم موسى عليه السلام التقدّم وثوقاً بالحق وعلماً أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه { قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله } قال الزمخشري : وقد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءً لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهر أنه أمر بالإلقاء .

وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح .

{ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا } أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }

وفي قوله { سحروا أعين الناس } دلالة على أنّ السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل { واسترهبوهم } أي أرهبوهم واستفعل هنا بمعنى افعل كأبل واستبل والرّهبة الخوف والفزع ، وقال الزمخشري : { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى ، وقال ابن عطية { واسترهبوهم } بمعنى وأرهبوهم فكان فعلهم اقتضى واستدى الرّهبة من الناس انتهى ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب والظاهر هنا حصول الرّهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق افعل وصرّح أبو البقاء بأنّ معنى { استرهبوهم } طلبوا منهم الرّهبة ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زنبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوق فتحركت وركب بعضها بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك وروي غير هذا من حيلهم وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف ، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى ، وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصى والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها .