مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا} (30)

ثم قال تعالى : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }

واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولا ، ثم ادعى كونه { جزاء وفاقا } ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة ، وظهر صحة ما ادعاه أولا من أن ذلك العقاب كان { جزاء وفاقا } لا جرم أعاد ذكر العقاب ، وقوله : { فذوقوا } والفاء للجزاء ، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ، فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله : { جزاء وفاقا } .

المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه : ( أحدها ) : قوله : { فلن نزيدكم } وكلمة لن للتأكيد في النفي ( وثانيها ) أنه في قوله : { كانوا لا يرجون حسابا } ذكرهم بالمغايبة وفي قوله : { فذوقوا } ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب ( وثالثها ) : أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم ، ثم قال : { فذوقوا } فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل ، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها ، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام : «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار ، كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه » بقي في الآية سؤالان :

السؤال الأول : أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } فهنا لما قال لهم : { فذوقوا } فقد كلمهم ؟ ( الجواب ) : قال أكثر المفسرين : تقدير الآية فيقال لهم : فذوقوا ، ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول : { فلن نزيدكم إلا عذابا } بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله ، والأقرب في الجواب أن يقال قوله : { ولا يكلمهم } أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع ، فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة ، فإن قوله : { ولا يكلمهم } إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزنا ، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب .

السؤال الثاني : دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبدا ، فتلك الزيادة إما أن يقال : إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة ، فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحسانا ، والكريم إذا أسقط حق نفسه ، فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك ، وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلما وإنه لا يجوز على الله ( الجواب ) : كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته ، فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام ، فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر ، وأيضا فتلك الزيادة مستحقة ، وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط ، والله علم بما أراد .