وقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات ؟ فقيل : { أَسْكِنُوهُنَّ } الخ ، و { مِنْ } للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم ، ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روى عن قتادة ، وقال الحوفي . وأبو البقاء : هي لابتداء الغاية ، وقوله تعالى : { مّن وُجْدِكُمْ } أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } على ما قاله الزمخشري ، ورده أبو حيان بأن لا يعرف عطف بيان يعاد فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً ، وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور لا المجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير ، ولا يخفي قوة كلام أبي حيان ، وقرأ الحسن . والأعرج . وابن أبي عبلة . وأبو حيوة { مّن وُجْدِكُمْ } بفتح الواو ، وقرأ الفياض بن غزوان . وعمرو بن ميمون . ويعقوب بكسرها وذكرها المهدوي عن الأعرج والمعنى في الكل الوسع { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى { لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ونحو ذلك { وَإِن كُنَّ } أي المطلقات { أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فيخرجن عن العدة ، وأما المتوفي عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه . وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة ، ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقهتهن بت الطلاق أو لم يبت .
واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الاتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات ، فقال ابن المسيب . وسليمان بن يسار . وعطاء . والشعبي . والحسن . ومالك . والأوزاعي . وابن أبي ليلى . والشافعي . وأبو عبيدة : للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها ، وقال الحسن . وحماد . وأحمد . وإسحاق . وأبو ثور . والإمامية : لا سكنى لها ولا نفقة لحديث فاطمة بنت قيس قالت : طلقني زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد ، وقال أبو حنيفة . والثوري : لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل ، ودليله أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المبتوتة : «لها النفقة والسكنى » مع أن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل ، ولو كان جزاءاً للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به .
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم ومن خص الانفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على النافين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط ههنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطريق الأولى كما في «الكشاف » فهو من مفهوم الموافقة ، وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر . وعائشة . وسليمان بن يسار . والأسود بن يزيد . وأبو سلمة بن عبد الرحمن . وغيرهم { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي بعد أن يضعن حملهن { فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } على الإرضاع { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } خطاب للآباء والأمهات ، والافتعال بمعنى التفاعل ، يقال : ائتمر القوم . وتآمروا بمعنى ، قال الكسائي : والمعنى تشاوروا ، وحقيقته ليأمر بعضكم بعضاً بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة ، وقيل : المعروف الكسوة والدثار { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } أي تضايقتم أي ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحة في الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى ، وفيه على ما قيل : معاتبة للأم لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه : سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم .
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصاً من الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة ، فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب ، والكلام على معنى فليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء ، وقال بعض الأجلة : إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضاً حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الأم في الأجر فامتنعت من الأرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى ، وهي أيضاً تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى ، وبذلك يظهر كمال الارتباط ، والأول أظهر فتدبر ، وقيل : { فَسَتُرْضِعُ } خبر بمعنى الأمر أي فلترضع ، وليس بذاك ، وهذا الحكم إذا قبل الرضيع ثدي أخرى أما إذا لم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا : تجبر على الأرضاع بأجرة مثلها .
قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى 6 لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } .
هذه جملة من أحكام المرأة المطلقة حال اعتدادها . وهي أحكام ربانية تفيض بالعدل والرحمة والرفق والحسنى التي يفرضها الإسلام على الرجال للنساء دفعا للحيف عنهن ودرءا للأذى والإضرار أن يحيق بهن . فأيما إضرار يقع على المرأة في نفسها أو مالها أو سمعتها وكرامتها فإنه محظور وينبغي دفعه وإزالته . قال سبحانه : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } من وجدكم ، يعني من سعتكم وطاقتكم وذلك في المطلقات وهن يقضين عدتهن فعلى الأزواج أن يسكنوهن عندهم حال اعتدادهن مما يجدونه من السعة ، من غير حرج في ذلك حتى تنتهي عدتهن .
قوله : { ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن } المضارة ، إلحاق الضرر بها . فيحرم على من طلّق زوجته أن يضارها أو يضاجرها فيؤذيها بوجه من وجوه الإضرار والأذى ليضطرها بذلك أن تخرج من مسكنها أو تفتدي من زوجها المضارّ بمالها .
قوله : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وهذا في البائن إن كانت حاملا فإنها تجب لها النفقة حتى تضع . أما الرجعية فإنها تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا . قال ابن عباس في ذلك : هذا في المرأة يطلقها زوجها فيبتّ طلاقها وهي حامل فيأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع .
قوله : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يعني إذا وضعت نساؤكم حملهن وهن طوالق ، فقد بنّ منكم بانقضاء عدتهن . ولهن حينئذ الخيار بإرضاع أولادهن منكم أو عدم إرضاعهم . لكنهن عليهن إرضاعهم اللبأ وهو بكسر اللام ومعناه أول اللبن في النّتاج{[4567]} أو هو باكورة اللبن ، وهو غذاء لا يستغني عنه الطفل في الغالب . وعلى هذا إذا أرضعت البائن الولد فقد استحقت بذلك أجر مثلها ولها أن تعاقد ولي أمر الولد على ما يتفقان عليه من أجرة في مقابلة إرضاع الولد .
قوله : { وأتمروا بينكم بمعروف } والخطاب للآباء والأمهات ، أو للأزواج والزوجات ، وائتمروا من الائتمار وهو أن يأمر بعضكم بعضا { بمعروف } أي بالجميل والمسامحة من غير إضرار أو مضارة ، فإن الرضيع ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه .
قوله : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } يعني إذا اختلف الأب والأم في أجرة الرضاع فطلبت الأم أجرة كبيرة ولم يجبها الأب أو ضنّ بذلك فلم يعطها إلا نزرا فليستأجر الأب لولده مرضعة أخرى . ولو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية كانت هي أحق بإرضاعه لإشفاقها عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.