وتسمى سورة غافر وسورة الطول وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : { وسبح بحمد ربك } لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين : أن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية وقيل : هي مكية إلا قوله تعالى : { إن الذين يجادلون } الآية فإنها مدنية فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول : عني بهذه الآية كذا وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الإستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك . وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي وأربع في الحجازي واثنان في البصري وقيل : ست وثمانون وقيل : ثمان وثمانون ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤل إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الإفتتاح بتنزيل الكتاب وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر { حم } وتلك مناسبة جلية ثم إن الحواميم ترتيب لاشتراكها في الإفتتاح بحم وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف وورد في فضلها أخبار كثيرة أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال : إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم وأخرج هو وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : الحواميم ديباج القرآن وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرج الديلمي وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا الحواميم روضة من رياض الجنة . وأخرج محمد بن نضر والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال : كن الحواميم يسمين العرائس وأخرج ابن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل { حم } منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله أخرج الترمذي والبزار ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ { حم } إلي وإليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح .
{ حم } بتفخيم الألف وتسكين الميم ، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان ، وحمزة . والكسائي . وأبو بكر بالإمالة الصريحة ، ونافع برواية ورش . وأبو عمرو بالإمالة بين بين ، وقرأ ابن أبي إسحاق . وعيسى بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف ، وجوز أن يكون ذلك نصباً بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل ، ونقل هذا عن سيبويه . وفي «الكشف » أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب .
وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جيز : والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف ، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره ، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه :
هذا رسول الله في الخيرات *** جاء بياسين وحاميمات
وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحداً ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم ؛ وأيضاً أنشد أبو عبيدة :
حلفت بالسبع الا لى تطولت *** وبمئين بعدها قد أمئيت
وبثمان ثنيت وكررت *** وبالطواسين اللواتي تليت
وبالحواميم اللواتي سبعت *** وبالمفصل التي قد فصلت
وذهب الجواليقي . والحريري . وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم ، وفي «الصحاح » عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب ، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم ، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن ، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات :
وجدنا لكم في آل حم آية *** تأولها منا تقي ومعرب
والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم ، وما سمعت يكفي في ردهم . نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شراً فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال : جاءني آل تابط شراً أو ذواتاً بط شراً أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم ، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو ، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية ، وفي كلام الرضى وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه ، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ اعني حم .
ومن باب الإشارة : في بعض الآيات : على ما أشار إليه بعض السادات { حم } [ غافر : 1 ] إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين ، وفي ذلك أيضاً سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها ، وفي ذلك من بشار المدعو ما فيه .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من الله ، المألوه المعبود ، لكماله وانفراده بأفعاله .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً ، فمر بأثر غيث ، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال : عجبت من الغيث الأول ، فهذا أعجب منه ، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو محمد الرومي ، حدثنا أبو العباس السراج ، أنبأنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب الجراح بن الجراح ، حدثه عن ابن عباس ، قال : لكل شيء لباب ، ولباب القرآن الحواميم ، وقال ابن مسعود : إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن ، وقال سعد بن إبراهيم : كن آل الحواميم يسمين العرائس .
قوله تعالى :{ حم } قد سبق الكلام في حروف التهجي . قال السدي ، عن ابن عباس : حم اسم الله الأعظم ، وروى عكرمة عنه ، قال : آلر وحم ونون حروف الرحمن مقطعة ، وقال سعيد بن جبير ، وعطاء الخراساني : الحاء افتتاح أسمائه ، حكيم ، حميد ، حي حليم ، حنان ، والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد منان ، وقال الضحاك ، والكسائي : معناه قضى ما هو كائن ، كأنه أشارا إلى أن معناه حم بضم الحاء وتشديد الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر حم بكسر الحاء ، والباقون بفتحها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية بإجماع، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية وهذا ضعيف والأول أصح، وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن ووقفه الزجاج على ابن مسعود، ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا، وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة، وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال: من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم. وهذا نحو الكلام الأول في المعنى. وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله -من ثم- كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة -وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر- وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!
كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..
من مصارع الغابرين: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟).. (أو لم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم؛ وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب)..
ومن مشاهد القيامة: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع).. (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون..)
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم)..
ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: (هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخاً. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).. (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟).. (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين).
وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم؛ وقد أخذهم الله أخذاً، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم: (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا.. (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً) ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار).. ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف -عليه السلام- ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعاً. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلاً ما تتذكرون). ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً. والأرض قراراً والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله [صلى الله عليه وسلم] من أمر الذين يجادلون في الله؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون).. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..
والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين. (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. على أن في الكون آيات قائمة، وبين أيديهم آيات قريبة؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها.. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين، وهم يرون بأس الله فيؤمنون (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنة الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون).. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما "الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح...
وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب...
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان...
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحواميم...
وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح...
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.
وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.
وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه.
والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.
وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.
والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.
وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.
وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.
وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...قوله "حم"... القول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أحسن الآراء أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: حا. ميم. منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: عين. سين. قاف. وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة.