والفاء في قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة { فاصبر } وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم ، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على اخبار الكفار في الآخرة ؛ وقال : المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل : هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل ، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه ، { مِنْ } بيانية كما في { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] والجار والمجرور في موضع الحال من { الرسل } فيكون أولوا العزم صفة جميعهم ، وإليه ذهب ابن زيد . والجبائي . وجماعة أي { فاصبر كَمَا صَبَرَ } الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها . وعن عطاء الخراساني . والحسن بن الفضل . والكلبي . ومقاتل . وقتادة . وأبي العالية . وابن جريج ، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن { مِنْ } للتبعيض فأولوا العزم بعض الرسل عليهم السلام ، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال ، فقال الحسن بن الفضل : ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام ( 90 ) لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } وقيل : تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلاً . وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار . والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح . ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده . ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء . وموسى عليه السلام قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال : { إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقيل : سبعة آدم . ونوح . وإبراهيم . وموسى . وداود . وسليمان . وعيسى عليهم السلام ، وقيل : ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح . وهود . وصالح . وموسى . وداود . وسليمان ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال : هم نوح . وإبراهيم . وإسحق . ويعقوب . ويوسف . وأيوب . وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح . وهود . وإبراهيم . وشعيب . وموسى عليهم السلام .
وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد . وابن المنذر عنه أنهم نوح . وإبراهيم . وموسى . وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال .
وقول الجلال السيوطي : إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروى عن أبي جعفر . وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال :
أولو العزم نوح والخليل الممجد *** وموسى وعيسى والحبيب محمد
مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسى نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك ، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد . وأبو الشيخ . والبيهقي في شعب الإيمان . وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح . وإبراهيم . وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم ، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الاطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل : فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقاً كما صبر إخوانك الرسل قبلك { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا { إِلاَّ سَاعَةً } يسيرة { مّن نَّهَارٍ } لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته . وقرأ أبي { مّنَ النهار } وقوله تعالى : { بَلاَغٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظته به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول ، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة . وأيد تفسير { بَلاَغٌ } بتبليغ بقراءة أبي مجاز . وأبي سراج الهذلي { بَلَغَ } بصيغة الأمر له صلى الله عليه وسلم ، وبقراءة أبي مجاز أيضاً في رواية { بَلَغَ } بصيغة الماضي من التفعيل ، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى : { متاع قَلِيلٌ } [ آل عمران : 197 ] وقال أبو مجاز : { بَلاَغٌ } مبتدأ خبره قوله تعالى : { لَهُمْ } السابق فيوقف على { وَلاَ تَسْتَعْجِل } ويبتدأ بقوله تعالى : { لَهُمْ } وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر ؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب ؛ وهو ضعيف جداً لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق { لَهُمْ } بتستعجل . وقرأ الحسن . وزيد بن علي . وعيسى { بَلاَغاً } بالنصب بتقدير بلغ بلاغاً أو بلغنا بلاغاً أو نحو ذلك . وقرأ الحسن أيضاً { بَلاَغٌ } بالجر على أنه نعت لنهار .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة ، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها . وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه يهلك بفتح الياء وكسر اللام وعنه أيضا يهلك بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها وقرأ زيد بن ثابت نهلك بنون العظمة من الإهلاك القوم الفاسقين بالنصب وهذه الآية أعني قوله تعالى : كأنهم إلى ألآخرجاء في بعض الآثار ما يشعر بأن لها خاصيةمن بين آي هذه السورة وأخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إليه إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين
ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم ، وتم يقينهم ، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم .
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة ، وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله مقيما على جهاد أعداء الله صابرا على ما يناله من الأذى ، حتى مكن الله له في الأرض وأظهر دينه على سائر الأديان وأمته على الأمم ، فصلى الله عليه وسلم تسليما .
وقوله : { وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم فلا يستخفنك بجهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك فإن كل ما هو آت قريب ، و { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل .
{ بَلَاغٌ } أي : هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل .
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلاغ لكم ، وزاد إلى الدار الآخرة ، ونعم الزاد والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الأليم ، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعقوبات { إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل .
وأعذر الله لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل الله العصمة .