تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

الآية 35 وقوله تعالى : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } يُلزم الرسل الصبر من وجوه ستة :

ثلاثة مما خُصّوا هم بها ، لا يشرُكُهم غيرهم فيها ، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها .

فأما الثلاثة التي خُصّوا بها :

فإحداها : أنهم{[19376]} بُعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمُّهم القتل وإهلاك من خالفهم ، وعصى أمرهم ومذهبهم ، فلم يُعذروا{[19377]} في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل . فأما غيرهم من الناس فقد أُبيح لهم كتمان الدين الحق عنهم حتى لا يُهلكوا .

والثانية{[19378]} : ألزمهم الصبر بالمُقام بين أظهُر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من الاستهزاء بهم والافتراء عليهم والتكذيب لهم وأنواع الأذى الذي كان منهم إلى الرسل ، لم يأذن لهم بمفارقتهم ، لذلك قال : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] لم يكن منه سوى الخروج من بين قومه لسلامة دينه لو لم يسلم ، ثم أصابه ما أصابه بذلك الخروج لما لم يُؤذن [ له ]{[19379]} بالخروج ، والله أعلم .

والثالثة{[19380]} : لم يجعل لهم الدعاء على أقوامهم بالهلاك والعذاب ، وإن كان منهم من التمرّد والتعنّت ما كان . فهذه الثلاثة من المعاملة مما خصّ من الرسل عليهم السلام بها من بين سائر الناس .

وأما الثلاثة [ التي ]{[19381]} يشترك فيها غيرهم .

[ فإحداهما{[19382]} : أُمروا بالصبر على ما يصيبهم ، وينزل [ بهم ]{[19383]} من البلايا والشدائد .

والثانية{[19384]} : أُمروا بالمحافظة على العبادات [ التي ]{[19385]} جُعلت عليهم والمحافظة [ على ]{[19386]} حدودها والصبر على القيام بها .

والثالثة{[19387]} : أُمروا بالصبر على ترك قضاء الشهوة وترك إعطاء النفس هواها .

فهذه الثلاثة لهم في ما بينهم وبين ربهم ، وهي مما يشترك فيها غيرهم . والثلاثة لأولى في ما بينهم وبين الخلق ، وهم قد خُصّوا بتلك الثلاثة دون غيرهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أولو العزم من الرسل } قال بعضهم : { أولو العزم من الرسل } : هم نوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى عليهم السلام وهؤلاء عُدّوا نفرا منهم . وقال بعضهم : هم الرسل جميعا .

وجائز أن يكون أولو العزم من الرسل هم الذين كان منهم الصبر على ما ذكرنا من المعاملة مع قومهم .

وقيل : أولو العزم هم الذين كانوا أبدا المتيقّظين القائمين بأمر الله الحافظين لحدوده ، وقالوا في آدم عليه السلام { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تستعجل لهم } أي لا تستعجل عليهم بالهلاك والنقمة .

وقوله تعالى : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } هذا يُخرّج على وجهين :

أحدهما{[19388]} : يقول ، والله أعلم : كأنك لا تُوعدهم بالساعة إلا ساعة من نهار . وهذا{[19389]} يخرّج على وجهين :

أحدهما : يقول والله أعلم : كأنك لا توعدُهم بالعذاب إلا ساعة من النهار . وعذاب ساعة /512-أن النهار مما لا يحملهم على ترك قضاء شهواتهم ومنع ما هم فيه من الأحوال .

والثاني : كأنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة ، وشاهدوه استقصروا المُقام في الدنيا ؛ كأنهم { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } وهو كقوله عز وجل : { كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] وقوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } [ الروم : 55 ] استقصروا{[19390]} المقام في الدنيا إذ [ ما ]{[19391]} عاينوا يوم القيامة وأهوالها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { بلاغ } قال بعضهم : [ من ]{[19392]} الإبلاغ ، وقيل : البلاغ من البُلغة ، أي زادٌ يُبلغ به السفر [ حين يُراد ]{[19393]} ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون } كأنه يقول : لا يُهلك الهلاك الدائم المؤبّد إلا القوم الفاسقون ؛ الهلاك الذي ليس هو بالهلاك المؤبّد مما يُهلَك الفاسق وغير الفاسق ؛ إذ الموت حق على الكل ، أو يقول : لا يهلك هلاك العذاب إلا الفاسق . فأما الهلاك الذي هو النجاة والفوز على شدائد الدنيا في ما يهلك به الصالح ، والله أعلم بالصواب{[19394]} .


[19376]:في الأصل وم: هم.
[19377]:في الأصل وم: يعذر.
[19378]:في الأصل وم: والثاني.
[19379]:من م، ساقطة من الأصل.
[19380]:في الأصل وم: والثالث.
[19381]:من م، ساقطة من الأصل.
[19382]:في الأصل وم: أحدها.
[19383]:ساقطة من الأصل وم.
[19384]:في الأصل وم: والثاني.
[19385]:ساقطة من الأصل وم.
[19386]:ساقطة من الأصل وم.
[19387]:في الأصل وم: والثالث.
[19388]:لم يذكر الوجه الثاني في الأصل وم.
[19389]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[19390]:في الأصل وم: اقتصروا.
[19391]:ساقطة من الأصل وم.
[19392]:من نسخة الحرم المكي.
[19393]:في الأصل وم: حيث يريد.
[19394]:ساقطة من م.