الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

واخْتُلِفَ في تعيين أُولى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، ولا محالةَ أَنَّ لكل نبيٍّ ورسولٍ عَزْماً وصَبْراً .

وقوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } معناه : ولا تستعجلْ لهم عذاباً ؛ فإنَّهم إليه صائرون ، ولا تَسْتَطِلْ تعميرَهُمْ في هذه النِّعْمَةِ ؛ فَإنَّهم يوم يَرَوْنَ العذاب كأنهم لَم يَلْبَثُوا في الدنيا إلاَّ ساعةً لاِحتقارهم ذلك ؛ لأَنَّ المنقضيَ من الزمان يصير عَدَماً .

( ت ) : وإذا علمتَ أَيُّها الأخُ أَنَّ الدنيا أضغاثُ أحْلاَم ، كان من الحزم اشتغالُكَ الآنَ بتَحْصِيلِ الزادِ لِلْمَعَاد ، وحِفْظِ الحَواسِّ ، ومراعاةِ الأنفاس ، ومراقبة مَوْلاَك ، فَاتَّخِذْهُ صاحباً ، وذَرِ الناس جانباً ؛ قال أبو حامد الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه : اعلم أَنَّ صاحبك الذي لا تفارقُهُ في حَضَرِكَ وسَفَرِكَ ، ونَوْمِكَ ويَقَظَتِكَ ، بل في حياتك ، وموتك هو رَبُّك ، ومولاك ، وسَيِّدُك ، وخالقك ، ومهما ذكرتَهُ فهو جَلِيسُكَ ؛ إذ قال تعالى : " أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي " ، ومهما انكسر قلبُكَ حُزْناً على تَقْصِيرِكَ في حق دِينِكَ ، فهو صَاحِبُكَ ومُلاَزِمُكَ ؛ إذْ قال : أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبهمْ مِنْ أَجْلِي . فلو عرفته يا أخي حَقَّ معرفتِهِ لاَتَّخذْتَهُ صَاحِباً ، وتركْتَ الناَّسَ جانباً ، فإنْ لم تَقْدِرْ على ذلك في جميع أوقاتك ، فَإيَّاكَ أنْ تُخْلِيَ ليلَكَ ونهارَكَ عَنْ وَقْتٍ تخلُو فيه بموْلاَكَ ، وتَلذَّذُ بمناجاتِهِ ، وعند ذلك فعليكَ بآدَابِ الصُّحْبَةِ مع اللَّه تعالى ، وآدابُهَا : إطراقُ الطَّرْفِ ، وجَمْعُ الهَمِّ ، ودَوَامُ الصَّمْتِ ، وسُكُونُ الجَوَارِحِ ، ومُبَادَرَةُ الأَمْرِ ، واجتنابُ النَّهْي ، وقِلَّةُ الاِعتراضِ عَلَى الْقَدَرِ ، ودَوَامُ الذِّكْرِ باللسان ، ومُلاَزَمَةُ الفِكْر ، وإيثارُ الحَقِّ ، واليَأْسُ من الخَلْقِ ، والخضوعُ تحْتَ الهيبَةِ ، والانْكِسَارُ تحت الحياء ، والسُّكُونُ عن حِيَلِ الكَسْب ثِقَةً بالضَّمَان ، والتَوَكُّلُ على فَضْل اللَّه معرفةً بحسن اختياره ؛ وهذا كله ينبغي أنْ يكون شعارَكَ ، في جميع لَيْلِكَ ونَهَارِك ، فإنَّهُ آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك ، والخلق كُلُّهم يفارقُونَكَ في بَعْضِ أوقاتك ، انتهى من «بداية الهداية » .

وقوله : { بَلاَغٌ } يحتمل [ معانيَا ] :

أحدُهَا : أَنْ يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : هذا إنذارٌ وتبليغٌ .

ويحتمل أنْ يريد : كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً كانَتْ بلاغَهُمْ ، وهذا كما تَقُولُ : متاعٌ قليلٌ ، وقيل غَيْرُ هذا ، وقرأ أبو مِجْلَزٍ وغَيره : { بَلَغٌ } على الأمر ، وقرأ الحسنُ بْنُ أبي الحَسَنِ : { بَلاَغٌ } بالخفْضِ نعتاً ل { نَّهَارٍ } .

وقوله سبحانه : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } وقُرِئ شَاذاً : { فَهَلْ يُهْلَكُ } ببناء الفعل للفاعل ، وفي هذه الآية وعيدٌ مَحْضٌ ، وإنذارٌ بَيِّنٌ ؛ وذلك أَنَّ اللَّه عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئةَ بمثلها ، وغفر الصغائر باجتنابِ الكبائرِ ، ووعد الغفرانَ على التوبة ، فلن يهلك على اللَّه إلاَّ هالَكَ ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبيُّ : يقال : إن قوله تعالى : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } أرجى آية في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين .