اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } الفاء في قوله «فَاصْبِر » عاطفة هذه الجملة على ما تقدم{[51146]} ، والسببية{[51147]} فيها ظاهرة . واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون{[51148]} صدره فقال تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم } أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات{[51149]} وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أولو الحَزْم{[51150]} .

قوله : { مِنَ الرسل } يجوز أن تكون من تبعيضية ، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ . ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم{[51151]} . قال ابن زيد : كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ ، ورأي وكمال عقل . وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس{[51152]} لا للتبعيض كما يقال اشتريت ( أكسية ){[51153]} من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ{[51154]} . وقيل : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] وقيل هم نُجَبَاء الرسل ، وهم المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ{[51155]} لقوله بعد ذكرهم : «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ »{[51156]} . وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد ، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين{[51157]} وقيل : هم ستة : نوحٌ وهودٌ ، وصالحٌ ، ولوطُ ، وشعيبٌ ، ومُوسَى ، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ

وقال مقاتل : هم ستة ، نوح صبر على أذى قومه ، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه ، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فَقْد ولده ، وذَهَابِ بصره ، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن ، وأيوبُ صبر على الضُرِّ .

وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع ، فهم مع مُحَمَّد خمسة . وقال البغوي : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] وفي قوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] الآية{[51158]} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : يا عائشةُ إن الله لم يرض لأولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها ، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا أن كلفني ما كلفهم قال : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } ، وإني والله لا بدّ لي من طاعة ، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله .

قوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } العذاب فإنه نازل بهم . قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر ، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن{[51159]} أبى من قومه ، فأمر بالصبر ، وترك الاستعجال . ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار ، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا ، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن ، قال الشاعر :

4461 كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى *** كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى{[51160]}

واعلم أنه تم الكلام ههنا .

قوله : «بلاغ » العامة على رفعه . وفيه وجْهَان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدره بعضهم : تلكَ الساعةُ بلاغٌ ، لدلالة قوله : { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ }{[51161]} . وقيل : تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم{[51162]} .

والثاني : أنه مبتدأ والخبر قله «لَهُمْ » الواقع بعد قوله { وَلاَ تَسْتَعْجِل } أي لهم بلاغ فيوقف على «ولا تستعجل » . وهو ضعيف جداً ، للفصل بالجملة التشبيهية ، ولأن الظاهر تَعَلُّق «لهم » بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع{[51163]} .

وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً »{[51164]} نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً . ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ «بَلِّغْ » أمراً{[51165]} . وقرأ أيضاً «بَلَّغَ » فعلاً ماضياً{[51166]} . ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً «لِسَاعَةِ » فإنه قال : «ولو قرئ بلاغاً بالنصب على المصدر ، أو على النعت لساعة جاز »{[51167]} . وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة . وقرأ الحسن أيضاً : بَلاَغٍ بالجر{[51168]} ، ويُخَرِّج على الوصف ل «نَهَار » على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ{[51169]} ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً . والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ .

قوله : «فهل يهلك » العام على بنائه للمفعول . وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل{[51170]} . وعنه أيضاً{[51171]} فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ ، بالكسر{[51172]} . قال ابن جني{[51173]} : «كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا » . وزيد بن ثابت : بضم الياء وكسر اللام ، فالفاعل هو الله تعالى . { القوم الفاسقون }{[51174]} . نصباً على المفعول به . وقرئ : «تَهْلِكُ » بالنون وكسر اللام ونصب «الْقَوْم »{[51175]} .

فصل

المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله{[51176]} قال الزجاج : تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون{[51177]} ، ولهذا قال قومٌ : مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية{[51178]} .

ختام السورة:

روى أبيّ بن كعب ( رضي الله عنه ){[1]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ »{[2]} ( اللَّهُمَّ تَوفَّنَا{[3]} مُسْلِمِينَ ) .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[51146]:من أخبار الكفار في الآخرة والمعنى بينهما مرتبط أي هذه حالهم مع الله فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله. وهو قول أبي حيان في البحر المرجع السابق.
[51147]:وهذا لايمنع كونها عاطفة فالسببية أكثر من العاطفة.
[51148]:في ب ويوحشون.
[51149]:انظر الرازي 28/35.
[51150]:القرطبي 16/220.
[51151]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/528 وأبو حيان في البحر 8/68.
[51152]:في ب للجنس.
[51153]:زيادة على النسختين لازمة.
[51154]:نسب هذا الرأي القرطبي في الجامع لابن عباس.
[51155]:الآية 90 منها.
[51156]:القرطبي السابق.
[51157]:القرطبي السابق أيضا وقد ذكر رحمة الله عليه كثيرا من الآراء في تفسيره العظيم انظر الجامع 16/220 و221.
[51158]:انظر معالم التنزيل له 6/47.
[51159]:في ب ممن غير مراد.
[51160]:في الرازي: لم يزل وقد أتى به استئنافيا للمعنى المذكور أعلى وانظر الرازي 28/35 والبيت لم أعرف قائله وهو من بحر الرجز.
[51161]:ذكره أبو حيان ولم يعينه انظر البحر 8/69.
[51162]:انظر المرجع السابق وهو رأي الحسن فيما نقله القرطبي في الجامع 16/222.
[51163]:بالمعنى من البحر المحيط المرجع السابق.
[51164]:ذكرها أبو الفتح في المحتسب وهي شاذة انظر المحتسب 2/268.
[51165]:المرجع السابق.
[51166]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 140 وذكر أنها عن أبي مجلز أيضا.
[51167]:قال: "لو نصب في الكلام على المصدر أو على النعت لساعة لجاز" مشكل إعراب القرآن 3/304.
[51168]:التبيان 1159 والبحر 8/69.
[51169]:المرجع السابق.
[51170]:المحتسب 2/268 وهي شاذة.
[51171]:قال في المحتسب: "وبعض الناس يقول: فهل يهلك".
[51172]:كذا في البحر لأبي حيان وفي المحتسب أنها بفتح اللام.
[51173]:كذا في النسختين وفي المحتسب: وهي مرغوب عنها أي تلك القراءة الأخيرة وانظر المحتسب 2/268.
[51174]:البحر 8/69 ومختصر ابن خالويه 140.
[51175]:الكشاف 3/528 وكلها شواذ ولم يحدد من قرأ بها.
[51176]:وهو رأي ابن عباس وغيره انظر القرطبي 16/222.
[51177]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/448.
[51178]:القرطبي المرجع السابق.