الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

قوله تعالى : " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " وقال ابن عباس : ذوو الحزم والصبر ، قال مجاهد : هم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم الصلاة والسلام . وهم أصحاب الشرائع . وقال أبو العالية : إن أولي العزم : نوح ، وهود ، وإبراهيم . فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم . وقال السدي : هم ستة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد ، صلوات الله عليهم أجمعين . وقيل : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورة " الأعراف والشعراء " . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه مدة . وإبراهيم صبر على النار . وإسحاق صبر على الذبح . ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر . ويوسف صبر على البئر والسجن . وأيوب صبر على الضر . وقال ابن جريج : إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم . وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا : هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة . وقيل : هم نجباء الرسل المذكورون في سورة " الأنعام " وهم ثمانية عشر : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهرون ، وزكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط . واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه : " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " {[13888]} [ الأنعام : 90 ] وقال ابن عباس أيضا : كل الرسل كانوا أولي عزم . واختاره علي بن مهدي الطبري ، قال : وإنما دخلت " من " للتجنيس لا للتبعيض ، كما تقول : اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز . أي اصبر كما صبر الرسل . وقيل : كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متى ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله ، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه ، فابتلاه الله بثلاث : سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلط الذئب على ولده فأكله ، وسلط عليه الحوت فابتلعه ، قال أبو القاسم الحكيم .

وقال بعض العلماء : أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله إليهم الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل ، فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل ، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب . وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من حرق بالنار . والله أعلم . وقال الحسن : أولو العزم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى ، فأما إبراهيم فقيل له : " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " {[13889]} [ البقرة : 131 ] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه ، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به . وأما موسى فعزمه حين قال له قومه : " إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين " {[13890]} [ الشعراء : 61 ] . وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها ، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة ، فقعد تحت ظلها . وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال : " إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها " . فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : اصبر ، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم ، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى . ثم قيل هي : منسوخة بآية السيف . وقيل : محكمة ، والأظهر أنها منسوخة ، لأن السورة مكية . وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل ، تسهيلا عليه وتثبيتا له . والله أعلم .

قوله تعالى : " ولا تستعجل لهم " قال مقاتل : بالدعاء عليهم . وقيل : في إحلال العذاب بهم ، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة . ومفعول الاستعجال محذوف ، وهو العذاب . " كأنهم يوم يرون ما يوعدون " قال يحيى : من العذاب . النقاش : من الآخرة . " لم يلبثوا " أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى . وقال النقاش : في قبورهم حتى بعثوا للحساب . " إلا ساعة من نهار " يعني في جنب يوم القيامة . وقيل : نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا . " بلاغ " أي هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن . ف " بلاغ " رفع على إضمار مبتدأ ، دليله قوله تعالى : " هذا بلاغ للناس ولينذروا به " {[13891]} [ إبراهيم : 52 ] ، وقوله : " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " {[13892]} [ الأنبياء : 106 ] . والبلاغ بمعنى التبليغ . وقيل : أي إن ذلك اللبث بلاغ . قاله ابن عيسى . فيوقف على هذا على " بلاغ " وعلى " نهار " . وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على " ولا تستعجل " ثم ابتدأ " لهم " على معنى لهم بلاغ . قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام ، - وهي رافعة - بشيء ليس منهما . ويجوز في العربية : بلاغا وبلاغ ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا ، على المصدر أو على النعت للساعة . والخفض على معنى من نهار بلاغ . وبالنصب قرأ عيسى بن عمر والحسن . وروي عن بعض القراء " بلغ " على الأمر ، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على " من نهار " ثم يبتدئ " بلغ " . " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " أي الخارجون عن أمر الله ، قاله ابن عباس وغيره . وقرأ ابن محيصن " فهل يهلك إلا القوم " على إسناد الفعل إلى القوم . وقال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " {[13893]} [ النازعات : 46 ] . " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " صدق الله العظيم . وعن قتادة : لا يهلك الله إلا هالكا مشركا{[13894]} . وقيل : هذه أقوى آية في الرجاء . والله أعلم .


[13888]:آية 90 سورة الأنعام.
[13889]:آية 131 سورة البقرة.
[13890]:آية 61 سورة الشعراء.
[13891]:آخر سورة إبراهيم.
[13892]:آية 106 سورة الأنبياء.
[13893]:آخر سورة النازعات.
[13894]:في تفسير الطبري: "تعلموا ما يهلك على الله إلا هالك ولّى الإسلام ظهره، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله".