السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (35)

ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة ؛ وهي التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد . وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره فقال تعالى : { فاصبر } أي : على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة ، وعلى أذى قومك قال القشيري : الصبر ، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه { كما صبر أولو العزم } أي : الثبات والجدّ في الأمور . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولو الحزم وقوله تعالى : { من الرسل } يجوز فيه أن تكون { من } تبعيضية وعلى هذا فالرسل : أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان ، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم .

قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه . ألا ترى أنه قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم { ولا تكن كصحاب الحوت } ( القلم : 48 ) وقال قوم : هم نجباء الرسل ، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ( الأنعام : 90 ) وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد ، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل : هم ستة ؛ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى . وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل : هم ستة ، نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب صبر على فقد ولده ، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن ، وأيوب صبر على الضرّ . وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال :

محمد إبراهيم موسى كليمه *** فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم

قال البغوي : ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ( الأحزاب : 7 ) وفي قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } ( الشورى : 13 ) الآية .

وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا الصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها . ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ ، ولا قوّة إلا بالله » .

ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل فقال عز من قائل : { ولا تستعجل لهم } أي : لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به . فإنه نازل بهم في وقته لا محالة . قيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه ، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا ، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } أي : من العذاب بهم في الآخرة { لم يلبثوا } أي : في الدنيا { إلا ساعة من نهار } استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار ، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا ، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر :

كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى *** كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى

تنبيه : تم الكلام ههنا وقوله تعالى { بلاغ } خبر مبتدأ محذوف قدره بعضهم : تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله تعالى { إلا ساعة من نهار } وبعضهم : هذا أي القرآن بلاغ أي تبليغ من الله تعالى إليكم وجرى عليه الجلال المحلي . { فهل } أي : لا { يهلك } أي : بالعذاب إذا نزل { إلا القوم } أي : الذين هم أهل القيام بما يحاولونه من اللدد ، { الفاسقون } أي : العريقون في إدامة الخروج عن الانقياد والطاعة ، وهم الكافرون . قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع فضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية . وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري : من أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا » . حديث موضوع .