روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

{ وَقَالَ } أي يوسف عليه السلام . { للَّذي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج } أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله : { قضي الأمر } [ يوسف : 41 ] الخ ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : للذي ظنه ناجياً { مِّنْهُمَا } أي من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيداً لمناط التوصية بالذكر بما يدور( {[380]} ) عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك . والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه ، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] ونظائره . ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى ، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله : { قضي الأمر } [ يوسف : 41 ] الخ ، وقيل : هو بمعناه ، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضاً اجتهادي . واستدل به من قال : إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي ، والجار والمجرور إما في موضع الصفة - لناج - أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقاً - بناج - لأنه ليس المعنى عليه { اذْكُرْنِي } بما أنا عليه من الحال والصفة . { عنْدَ رَبِّكَ } سيدك ، روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له : أوصني بحاجتك ، فقال عليه السلام : حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها { فَأَنْسَاهُ الشيْطَانُ } أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً حتى يذهل عن الذكر ، وإلا فالإنساء حقيقة لله تعالى ، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه { ذكْرَ رَبِّه } أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك ، والإضافة لأدنى ملابسة ، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه .

{ فَلَبثَ } أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء { في السِّجْن بضْعَ سنينَ } البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة ، وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى دون المائة والألف ، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع ؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فميا صححه البعض ، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر ، وقيل : إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول ، وقد لبث قبلها خمساً فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ، ويدل عليه خبر «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : { اذكرني عند ربك } لما لبث في السجن سبعاً بعد / خمس »( {[381]} ) .

وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات «ما لبث في السجن طول ما لبث » وهو لا يدل على المدعى . وروى ابن أبي حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع ههنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره ، والأولى أن لا يجزم بمقدار معين كما قدمنا . وكون هذا اللبث مسبباً عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال : «أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن

يقتلوك ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ، قال : أنت يا رب ، قال : فما بالك نسيتني وذكرت آدمياً ، قال : يا رب كلمة تكلم بها لساني ، قال : وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين » وغير ذلك من الأخبار . ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به ، فقد قال سبحانه : { وتعاونوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص ، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم ، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه ، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن ، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ، وموجب للطعن في غير ما خبر ، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام . وجوز بعضهم كون ضمير - أنساه - و { ربه } عائدين على يوسف عليه السلام ، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو تك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين ، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء ، ولقوله تعالى الآتي : { وادّكر بعد أمّة } [ يوسف : 45 ] .


[380]:- ولذا لم يذكره بعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل وأدعى إلى تحقيق ما وصاه به اهـ منه.
[381]:- وقيل: إنه لبث خمس سنين، وقد تقدم هذا القول فتذكر اهـ منه.