المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

وقوله : { وقال للذي ظن أنه ناج } الآية . «الظن » هاهنا - بمعنى اليقين ، لأن ما تقدم من قوله : { قضي الأمر } يلزم ذلك ، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود : وقال قتادة : «الظن » - هنا - على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن .

قال القاضي أبو محمد : وقول يوسف عليه السلام : { قضي الأمر } دل على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله { قضي الأمر } أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم ، والله أعلم بما يكون بعد .

وفي الآية تأويل آخر ، وهو : أن يكون { ظن } مسنداً إلى الذي قيل له : إنه يسقي ربه خمراً ، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج : وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب .

ومعنى الآية : قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : { اذكرني } عند الملك ، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق ، أو يذكره بهما .

والضمير في { أنساه } قيل : هو عائد على يوسف عليه السلام{[6690]} ، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله ، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق ، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك ، وطول سجنه عقوبة على ذلك ، وقيل : أوحي إليه : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك ، وقيل : إن الضمير في { أنساه } عائد على الساقي - قاله ابن إسحاق - أي نسي ذكر يوسف عند ربه ، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده ، و «الرب » على هذا التأويل - الملك{[6691]} .

و { بضع } في كلام العرب اختلف فيه ، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة ، قاله ابن عباس ، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان ؛ وقال أبو عبيدة : «البضع » لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة ، وقال الأخفش «البضع » من الواحد إلى العشرة ، وقال قتادة : «البضع » من الثلاثة إلى التسعة ، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره{[6692]} مع قريش في غلبة الروم لفارس

ث«أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع »{[6693]} وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة ، قال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف ، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله { اذكرني عند ربك } بالبقاء في السجن سبع سنين ، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة ، وقيل : عوقب ببقاء سنتين ، وقال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث » ، ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس{[6694]} .


[6690]:النسيان غير جائز على الأنبياء في أمور الشريعة، وأما في أمور الدنيا فهو جائز إذا أخبر الله عنهم، أما نحن فلا يجوز لنا أن نصفهم به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، وقال: (نسي آدم فنسيت ذريته)، ذكر ذلك القرطبي.
[6691]:إطلاق الرب على السيد أو الملك معروف في اللغة، قال الأعشى: ربي كريم لا يكدر نعمة وإذا تنوشد في المهارق أنشدا ومعنى (تنوشد): نوشد ودعي، والمهارق: الصحف والواحدة مهرق، يقول: إذا سئل أعطى.
[6692]:الخطر بفتح الخاء والطاء: النصيب والرهان، وفي حديث عمر في قسمة وادي القرى: (وكان لعثمان فيه خطر، ولعبد الرحمن خطر) أي نصيب. (المعجم الوسيط).
[6693]:قصة مراهنة أبي بكر رضي الله عنه لقريش على غلبة الروم مشهورة معروفة، إذا كان المسلمون يحبون غلبة الروم على فارس لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وكانت قريش لا تحب ذلك لأنهم وأهل فارس لا يؤمنون بكتاب ولا بالبعث، وقد جعل أبو بكر الأجل بينه وبينهم ست سنين على رواية، وثلاث سنين على رواية أخرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فزائد في الخطر و مادد في الأجل)، وكان ذلك قبل تحريم الرهان، راجع صحيح الترمذي في تفسير أول سورة الروم.
[6694]:أخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله يوسف لولا ... الحديث). (الدر المنثور).