فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } أي : قال يوسف ، والظان هو أيضاً يوسف . والمراد بالظنّ العلم ؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز ، هكذا قال جمهور المفسرين . [ وقيل ] : الظاهر على معناه ؛ لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً ، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء . ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } الآية ، وجملة : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } هي مقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب ، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف ، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله : { ذِكْرَ رَبّهِ } وهو الله سبحانه أي : إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال . { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته . وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين : وهو الشرابي ، والمعنى : إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده ، أي : ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ، ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك ، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء . وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ) ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين ، وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك ، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله : { فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ } ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادّكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] سنة . { فَلَبِثَ } أي : يوسف { فِي السجن } بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين ، أو بسبب ذلك الإنساء { بِضْعَ سِنِينَ } البضع : ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب . وحكي عن أبي عبيدة أن البضع : ما دون نصف العقد ، يعني : ما بين واحد إلى أربعة ؛ وقيل : ما بين ثلاث إلى سبع ، حكاه قطرب . وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس . وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف في السجن ، فقيل : سبع سنين ، وقيل : ثنتا عشرة سنة . وقيل : أربع عشرة سنة ، وقيل : خمس سنين .

/خ42