فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

{ وقال للذي ظن أنه ناج منهما } أي قال يوسف عليه السلام والظان هو أيضا يوسف عليه السلام والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز هكذا قال جمهور المفسرين .

وقيل الظاهر أنه على معناه لأنه عابر الرؤيا إنما يظن ظنا ، والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما تقدم .

{ اذكرني عند ربك } هي معقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ويقولون له إن في السجن غلاما محبوسا ظلما منذ خمس سنين ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على كل شيء من علم الغيب فخرج .

{ فأنساه الشيطان ذكر ربه } وكانت هذه المقالة منه صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدا إلى يوسف عليه السلام هكذا قال أكثر المفسرين ، ويكون المراد بربه في قوله ذكر ربه هو الله سبحانه أي أنسى الشيطان يوسف عليه السلام ذكر الله تعالى في تلك الحال . فقال الذي ظن أنه ناج منهما يذكره عند سيده ليكون ذلك سببا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته وذلك غفلة عرضت له عليه السلام فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر وإن كانت جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف عليه السلام أعلى المقامات ورتبته أعلى الرتب وهي منصب النبوة والرسالة لاجرم صار مؤاخذا بهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين .

وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه وهو الذي نجا من الغلامين وهو الشرابي والمعنى أنسى الشرابي الشيطان ذكر سيده أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف عليه السلام من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف عليه السلام مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك .

وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف عليه السلام ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه .

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ) {[967]} ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف عليه السلام لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وأجيب بأن النسيان بمعنى الترك وإنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف عليه السلام ما بعده من قوله { فلبث في السجن بضع سنين } ويؤيده رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي { الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } .

{ فلبث } يوسف عليه السلام { في السجن } بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين أو بسبب ذلك الإنساء ، أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : لو لم يقل يوسف عليه السلام الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث يبتغي الفرج من عند غير الله{[968]} . وعن عكرمة مرفوعا نحوه وهو مرسل { بضع سنين } البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب وبه قال قتادة .

وحكى عن أبي عبيدة أن البضع ما دون نصف العقد ، يعني ما بين واحد إلى أربعة وقيل ما بين ثلاث إلى سبع قاله مجاهد ، وقيل هو ما دون العشرة . وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس ، وقد اختلف السلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف عليه السلام في السجن فقيل سبع سنين قاله ابن جريج وقتادة ووهب ابن منبه وقيل اثنتي عشرة سنة قاله ابن عباس وقيل أربع عشرة سنة قاله الضحاك وقيل خمس سنين .

وعن أنس قال : أوحي إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلونك ؟ قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ؟ قال : أنت يا رب قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ؟ قال : أنت يا رب ، قال : فمالك نسيتني وذكرت آدميا ؟ قال : جزعا وكلمة تكلم بها لساني قال : فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين فلبث فيه سبع سنين أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الله ابن أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله .


[967]:مسلم 572
[968]:ابن كثير 2/479.