تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

وقوله تعالى : ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ) قال بعضهم : [ إن كان الظان ][ في الأصل وم : ظن ] الذي صدق ، هو ذلك الرجل ، كان[ في الأصل وم : فكان ] الظن في موضع الظن /253-أ/ وإن الظان هو يوسف فهو علم ويقين ؛ أي علم وأيقن ( أنه ناج ) لأنه لا يحتمل على حقيقة الظن من يوسف . أي وقال للذي ، ناج منهما ، ظن أنه يذكره عند ربه ، وهو على التقديم والتأخير : ( اذكرني عند ربك ) .

قال بعض أهل التأويل : إن يوسف لما فرغ إلى غير الله ، وطلب إخراجه من السجن من الملك ، أنساه الله ذكره[ في الأصل وم : وفيه ] وأفتره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه ، لكن هذا لا يحتمل أن يكون يوسف يفرغ إلى غير الله ويدفع قلبه عن الله ، ويشغله بمن دونه .

لكنه رأى ، والله أعلم ، أن الله عز وجل جعل سبب نجاته على يده ، وأنه بقي فيه منسيا لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمه الحبس سوى الاعتذار إلى الناس والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت زوجته ، أو لينقطع ذلك الخبر عن ألسن الناس ، ويبعد عن أوهامهم ، فرأى أنه إذا ذكره لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه لأنه رأى ذلك منه ، [ وفرغ قلبه إلى ][ في الأصل وم : ورفع قلبه عن ] الله .

وهكذا جعل الله تعالى أمور الدنيا كلها ، وعلى ذلك تعبد عباده باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من الله نحو ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها ونحو الأسلحة التي اتخذوها[ في الأصل وم : اتخذت ] للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك .

وإنما يحاربون بالله و به يقاتلون ، ومن عنده ينصرون ، وقد أمر بذلك[ في الأصل وم : ذلك ] كله وبتلك الأسباب ، فقال : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من القوة )[ الأنفال : 60 ] .

وليس كل من فعل هذا كان فرغ إلى غير الله ، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب ، بل رأى ذلك كله من الله ومن عنده . فعلى ذلك يوسف . لا يجوز أن يتوهم أنه فرغ إلى مخلوق مثله ورأى نجاته من عند ذلك ، ولكن للوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( اذكرني عند ربك ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ( اذكرني عند ربك ) لعلي حبست بلا علم منه وبغير أمره ، لأن تلك المرأة هي التي أوعدت له السجن ، فوقع عنده أنها التي احتالت في حبسه ، فقال لذلك ما قال .

والثاني يقول : اذكرني بالذي رأيت مني ، وسمعت ، لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد حين[ في الأصل وم : حيث ] قال : ( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )[ الآية : 39 ] .

وقوله تعالى : ( فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) قال بعض أهل التأويل : أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه ، وخلقه فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة رب .

وقال بعضهم : قوله : ( فأنساه الشيطان ) [ أنسى الشيطان ][ ساقطة من الأصل وم ] الذي قال له يوسف ( اذكرني عند ربك ) ذكر ربه ، وهذا أشبه . والأول بعيد لأنه قال في آخره : ( واذكر بعد أمة ) أي بعد حين ( أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون )[ الآية : 45 ] دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان ذلك[ أدرج قبلها في الأصل وم : على ] الرجل ، فلم يذكره عنده حينا .

وقال بعضهم : لم ينسه الشيطان ولكن تركه عمدا فلم يذكره عنده لعله يتذكر ما تقدم من المقال ، فيزداد غضبا عليه ، فتركه عمدا إلى أن جاء وقته ، والله أعلم ، لأن بدء كل شر يكون من الشيطان . وأضاف الإنسان إلى الشيطان . وكذلك قال موسى عليه السلام ( وما أنسانيه إلا الشيطان )[ الكهف : 63 ] فهو ، والله أعلم ، لأن بدء كل شر يكون من الشيطان ، لأنه يخطر بباله ، ويقذف في قلبه ، ويوسوسه ، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك ، والفعل .

وفائدة النسيان ، والله أعلم ، هي أن الله تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته بكونه[ في م : يكون ] في السجن ، ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أولئك النسوان ، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها .

وقوله تعالى : ( فلبث في السجن بضع سنين ) قال بعضهم : خمس سنين ، وقال بعضهم سبع سنين . ولكن لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أن فيه أنه لبث فيه حينا .

وقال أبو بكر الأصم : قوله : صاحبا[ أدرج قبلها في الأصل وم : يا ] السجن بالألف . فلما لم يقل هذا دل أنه أضاف إلى نفسه ؛ كأنه قال : يا صاحبي في السجن ، لأنهما كانا معه في السجن .

وقوله تعالى : ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) قيل : فرغ ، وقيل انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي [ الأمر ][ ساقطة من الأصل وم ] كقوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل )الآية[ الإسراء : 4 ] وقوله[ في الأصل وم : و ] : ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) كأنه بلغ إليهما وحيا إليه وأمرا[ في الأصل وم : وأمر ] به ؛ أي هو كائن من غير رجوع يكون[ في الأصل وم : كان ] منهما على ما يقوله أهل التأويل ، والله أعلم .