{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ } وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا ، ومعنى كونه { مّنْ أَنفُسِهِمْ } أنه منهم ، وذلك ليكون أقطع للمعذرة ، ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضاً ، وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام ، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة ، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم ، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيداً عليهم ولا بد أن لا يكون جائز الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل ، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم ، ثم قال : وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى ، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة ، قال الطبرسي في «مجمع البيان » : ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو . وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف ، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله .
وقال الأصم : المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان ، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم .
وتعقبه القاضي . وغيره بأن كونه شهيداً على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم ، وأيضاً قوله تعالى : { مِن كُلّ أمَّةٍ } يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة ؛ وأيضاً مقابلة ذلك بقوله سبحانه : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلآء } يبعد ما ذكر كما لا يخفى ، والمراد بهؤلاء أمته صلى الله عليه وسلم عند أكثر المفسرين ، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته .
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله تعالى عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم " بل جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى ، فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور " وأخرج أحمد عن أنس مرفوعاً " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتعهم حتى تهديدهم كما هديتنا " وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة " وألهمهم أن يعملوا بطاعتك "
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال : «إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤن » فكان أبو الدرداء يقول عند ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده . والنبي صلى الله عليه وسلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى ، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض لذلك لا نفياً ولا إثباتاً ، فإن قيل : إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته بعد خلوهم عنه نبي آخر ، وإن قيل : إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق ، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه حديث " ليذادن عن الحوض أقوام " الخبر ، وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه ، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل ، وقيل : المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء صلى الله عليه وسلم فتخلو عن التكرار . ورد بأن المراد بشهادته عليه الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكراراً وهو الوارد في الحديث ، وقد ذكره غير واحد في تفسيره قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] و { على } لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك . نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة ، ولعل الأمر في ذلك سهل . وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ } تكرير لما سبق تثنية للتهديد ، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم ، وإيثار لفظ المجىء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى .
وتعقب بأن حمل { هَؤُلاء } على ما ذكر خلاف الظاهر ، وجوز أن يكون إيثار المجىء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناءً على أن شهادته صلى الله عليه وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم .
والظرف معمول لمحذوف كما مر ، والمراد به يوم القيامة { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس ، وهذا على ما في «البحر » استئناف أخبار وليس داخلاً مع ما قبله لاختلاف الزمانين .
وجوز غير واحد كونه حالاً بتقدير قد ، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ } الخ إن كان كلاماً مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه : { نَبْعَثَ } و { شَهِيداً } حالاً مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفاً عليه ، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله ، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالاً هنا ، ففي صحة كونه حالاً كلام إلا أن يبني على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى . وتعقب بأنه ليس شيء لأن قوله سبحانه : { تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى ، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده ، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كنا نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى ، وفيه نظر .
وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب ، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف ؛ والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين . والمبرد عن البصريين ، قال سلامة الأنباري في «شرح المقامات » : كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء ، وقال ابن عطية : هو اسم وليس بمصدر ، وهذه الصيغة أيضاً في الأسماء قليلة ، فعن ابن مالك أنه قال في «نظم الفوائد » : جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبارك لموضعين ، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال ، واقتصر أبو جعفر النحاس في «شرح المعلقات » على أقل من ذلك فقال : ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلفت فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وأفصح انتهى ، والمعروف أن { تِبْيَانًا } مصدر وليس باسم وإن قيل : إنه قول أكثر النحويين ، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن ، والمراد من { كُلّ شَىْء } على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم عليهم السلام ، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام ، فانتظام الآية بما قبلها ظاهر ، والدليل على تقدير الوصف المخصص لشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين ، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب ، وقال صلى الله عليه وسلم :
«أنتم أعلم بأمور دنياكم » وكون الكتاب تبياناً لذلك باعتبار أن فيه نصاً على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل فيه : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] وحثا على الإجماع في قوله سبحانه : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع ، وقد رضي صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال عليه الصلاة والسلام : { عَلَيْكُمْ } وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب ، وقال بعض : { قَدِيرٌ ءامَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون كُلٌّ } للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى : { تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا } [ الأحقاف : 25 ] إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصاً لا يقتضيه المقام . ورد الثاني بما سمعت آنفاً ؛ والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] إنه من قولك : فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ، ومنه قوله سبحانه : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } [ البقرة : 270 ] وقال بعضهم : لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء { كُلٌّ } على حقيقتها في الجملة ، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء { شَىْء } على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول . نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد .
وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب : إنه يدل على الجواز قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن ، وتوجيه كونه تبياناً لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة ، فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمانعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى » فقالت له امرأة في ذلك فقال : مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] قالت : بلى . قال : فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه .
وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن { كُلٌّ } للتكثير فقال : ما من شيء من أمر الدين والدنيا ألا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بياناً بليغاً واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بياناً بليغاً لقوم ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بياناً لواحد ولا يكون بياناً لآخر فضلاً عن كون البيان بليغاً أو غير بليغ وليس هذا التفاوت قوى البصائر ، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الإبصار ، وقيل : معنى كونه تبياناً أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلاً عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه ، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها ، وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر ، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية ، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية . وقد رأيت جد ولا حرفياً منسوباً إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة ، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم ، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا : إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضاً مستخرج من القررن العظيم .
وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه ، وقيل : لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك ، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير وقوله صلى الله عليه وسلم :
«أنتم أعلم بأمور دنياكم » وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم قبل نزول ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير ، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى » مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية ، وقد قالوا : إن القرآن العظيم تبيان لها ، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال ، وقال بعضهم : إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولاً بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] بناءً على تفسير كثير العبادة بالمعرفة ، وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية : «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من ( كُلّ شَىْء ) ذلك ، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبياناً إلى ما احتاج إليه حمل ( كُلّ شَىْء ) على أمور الدين مطلقاً من قولنا : إنه باعتبار أن فيه نصاً على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة الخ ، واختار بعض المتأخرين أن ( كُلّ شَىْء ) على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالاً ، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقاً ، ولو حمل التبيان على ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار مراتب المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضاً فليتدبر ، ونصب { تِبْيَانًا } على الحال كما قال أبو حيان .
وجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } للجميع بقرينة قوله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } خاصة ، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصلة والرحمة الرحمة التامة .
( ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } [ النحل : 89 ] أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع ، وقيل : كل شيء هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه : { وَكُلَّ شىْء أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ]