فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( 89 ) }

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، أي : نبيا يشهد ، { عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ } : { من } ، أي : جنسهم ، إتماما للحجة وقطعا للمعذرة ، وهو أعدل شاهد عليها .

وهذا تكرير لما سبق ؛ لقصد التأكيد والتهديد .

وقال الخطيب : كرر سبحانه التحذير من ذلك اليوم ، على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة ، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم ، وتكون بحضرتهم . { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد ؛ وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه عليه الصلاة والسلام ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع .

{ شَهِيدًا } ، تشهد { عَلَى هَؤُلاء } ، أي : على هذه الأمم ، وقيل : على أمتك وقومك ، هكذا قال الجلال ، وسنده قوله سابقا : { ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } الخ ، ومثله في البيضاوي ، وفي الشهاب عليه ، وقيل : الآية مسوقة لشهادته على الأنبياء فتخلوا عن التكرار ، ورد بأن المراد بشهادته على أمته : تزكيته وتعديله لهم ، وقد شهدوا على تبليغ الأنبياء ، وهذا لم يعلم مما مر ، وهو الوارد في الحديث ، وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء .

{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ } ، في الدنيا ، { الْكِتَابَ } ، أي : القرآن ، والجملة مستأنفة ، { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، أي : بيانا له ، والتاء للمبالغة ، فالتبيان أخص من مطلق البيان ، على قاعدة أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى ، ونظيره من المصادر التلقاء ، ولم يأت غيرهما ، وفي الأسماء كثير ، نحو التسامح والتمثال .

ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ، ومعنى كونها لكل شيء : أن فيه البيان البالغ لكثير من الأحكام ، والإحالة فيما بقي منها على السنة ، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتي به من الأحكام ، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك .

وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إني أوتيت القرآن ومثله معه ) {[1058]} . وعن ابن مسعود قال : تبيانا لكل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، وعنه قال : من أراد العلم ، فليؤثر القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين .

قال الكرخي : إما تبيينه في نفس الكتاب ، أو بإحالته على السنة لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، أو بإحالته على الإجماع كما قال تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } الآية . أو على القياس كما قال : { فاعتروا يا أولي الأبصار } ، والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس .

فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء ، فاندفع ما قيل ، كيف قال الله ذلك ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا ؟ كعدد ركعات الصلاة ، ومدة المسح ، والحيض ، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وغير ذلك ، ومن ثم اختلفت الأمة في كثير من الأحكام . أ ه .

وفي هذا التقرير بحث ونظر ذكر في محله فليراجعه ؛ ولذلك قال الشهاب على قول البيضاوي بالإحالة إلى السنة أو القياس وفيه تأمل . انتهى . وقد احتج بهذه الآية جمع من أهل العلم على منع التقليد .

{ وَهُدًى } للعباد من الضلالة ، { وَرَحْمَةً } لهم ، { وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، خاصة دون غيرهم ، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة لهم ، لأنهم المنتفعون بذلك .


[1058]:صحيح الجامع الصغير 2640 – تخريج المشكاة 163.