اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } الآية .

وهذا نوع آخر من التَّهديد ، والأمة عبارة عن القرن والجماعة ، والمراد : أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته ؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم .

وقيل : المراد : أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا ، فلابدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم ، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ، فهو الرسول ؛ لقوله - تعالى - : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] وقوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } .

وقال الأصم : المراد بالشَّهيد : هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه ، وهي : الأذنان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، والجلد واللسان .

قال : والدَّليل عليه : أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم ، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم .

وأجاب القاضي عنه : بأنه - تعالى - قال : { شَهِيداً عَلَيْهِمْ } ، أي : على الأمَّة ، فيجب أن يكون غيرهم ، وأيضاً قال : " مِنْ كل أمةٍ " ، فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة ، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة ، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد ؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة ، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه .

قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً } ، يجوز أن يكون : " تِبْيَاناً " في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، وهو مصدر ، ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان : هذا والتِّلقاء ، وفي الأسماء كثيراً ، نحو " التِّمساح والتِّمثال " ، وأما المصادر فقياسها فتح الأول ؛ دلالة على التكثير ك " التَّطوافِ " و " التَّجْوالِ " .

وقال ابن عطية : إنَّ " التِّبْيَان " اسمٌ وليس بمصدر ، والنحويُّون على خلافه .

قال شهاب الدين{[20027]} - رحمه الله- : وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده ، عن الزجاج أنه قال : " التِّبيان " ، اسمٌ في معنى البيان .

وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله : أنه - تعالى - قال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، أي : أنه أزاح علتهم فيما كلِّفوا ، فلا حجَّة لهم ولا معذرة .

وقال نفاةُ القياس : دلَّت هذه الآية على : أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ ، والعلوم إمَّا دينية ، أو غير دينية ، فالتي ليست دينية ، لا تعلُّق لها بهذه الآية ؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين ، وأمَّا غير ذلك ، فلا التفاتَ إليه ، وأما علومُ الدِّين : فإمَّا الأصول ، وإما الفروع .

فأما علم الأصول : فهو بتمامه موجودٌ في القرآن .

وأما علم الفروع : فالأصل براءة الذِّمَّة ، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب ، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان القول بالقياس باطلاً ، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام .

قال الفقهاء : إنَّما كان القرآن " تِبياناً لكل شَيْءٍ " ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ ، وخبر الواحد ، والقياس حجة ، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن ، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف .

قال المفسرون : " تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ " ، يحتاج إليه من الأمرِ ، والنهيِ والحلالِ ، والحرامِ ، والحدودِ ، والأحكامِ ، " وهُدًى " من الضَّلالةِ ، " ورحْمَةٌ " و " بشرى " ، وبشارة " للمسلمين " ، قوله : " للمسلمين " ، متعلق ب : " بشرى " ، وهو متعلق من حيث المعنى ب : " هدى ورحمة " أيضاً .

وفي جواز كون هذا من التنازع نظر ، من حيث لزوم الفصل بين المصدر ومعموله بالظرف ، حال إعمالك غير الثالث ؛ فتأمَّلهُ .

وقياس من جوَّز : [ التنازع ] في فعل التعجب ، والتزام إعمال الثاني ؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوز هذا على هذه الحالة .


[20027]:ينظر: الدر المصون 4/354.