السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

ثم كرّر سبحانه وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة ، وهو أنّ الشهادة تقع على الأمم لا لهم ، وتكون بحضرتهم فقال : { ويوم } أي : وخوفهم ، أو واذكر لهم يوم { نبعث } ، أي : بمالنا من القدرة ، { في كل أمّة } من الأمم ، والأمّة عبارة عن القرن والجماعة ، { شهيداً عليهم } ، قال ابن عباس : يريد الأنبياء . قال المفسرون : كل نبيّ شاهد على أمّته ، وهو أعدل شاهد عليها . { من أنفسهم } ، أي : منهم ؛ لأنّ كل نبيّ إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ؛ ليشهدوا عليهم بما فعلوا من كفر وإيمان ، وطاعة وعصيان . { وجئنا } ، بما لنا من العظمة ، { بك } ، يا خير المرسلين ، { شهيداً على هؤلاء } ، أي : الذين بعثناك إليهم ، وهم أهل الأرض ، وأكثرهم ليس من قومه صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك لم تقيد بعثته بشيء ، وقال أبو بكر الأصم : المراد بذلك الشهيد : هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان ، حتى أنها تشد عليه ، وهو : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان ، قال : والدليل عليه ما قاله في صفة الشهيد أنه من أنفسهم ، وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم ، ورد بأنه تعالى قال : { شهيدا عليهم } ، يجب أن يكون غيرهم ، وأيضاً قال : { من كل أمّة } ، فيجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمّة ، وآحاد هذه الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمّة ، ثم بيّن تعالى أنه أزاح علتهم فيما كلفوا به ، فلا حجة لهم ولا معذرة بقوله تعالى : { ونزلنا } ، أي : بعظمتنا ، بحسب التدريج والتنجيم ، { عليك } ، يا خير خلق الله ، { الكتاب } ، أي : القرآن الجامع للهدى ، { تبياناً } ، أي : بياناً بليغاً ، { لكل شيء } ، فإن قيل : كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء ؟ أجيب : بأن المعنى من كل شيء من أمور الدين ، حيث كان نصاً على بعضها ، وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم وطاعته . وقد قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم ، 3 ] ، وحثاً على الإجماع في قوله تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء ، 115 ] . وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم ، وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّؤوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مسندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثم كان تبياناً لكل شيء ، { وهدى } ، أي : من الضلالة ، { ورحمة } ، لمن آمن به وصدّقه ، { وبشرى } ، بالجنة ، { للمسلمين } ، أي : الموحدين خاصة .