الآية : 89 وقوله تعالى : { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم } ، يحتمل قوله : { من أنفسهم } ، أي : من البشر . ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم .
وقوله تعالى : { وجئنا بك شهيدا على هؤلاء } ، هو ما ذكرنا : يشهد الرسول عليهم بالتبليغ ، ويشهد لمن أجابه ، وأطاعه ، وعلى ( من رده ، وكذبه ){[10419]} بالرد والتكذيب .
وقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } ، ما ذكر في هذه السورة ؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها ، ووجوب الأسباب التي بها يوصل إليها ، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر ، وفيها {[10420]} ذكر ما وعد ، وأوعد ، وأمر ، ونهى ، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه ( به ، وفيها ) {[10421]} ذكر سلطانه ، وذكر سفه الكفرة وعنادهم ، وذكر ما يؤتى ، ويتقى . فذلك تبيان كل شيء .
أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء ؛ إذ في القرآن ما ذكرنا من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم ، وجميع ما يؤتى ويتقى ؛ ففيه تبيان كل من الوجه الذي ذكرنا . أو أن يكون أنزل عليه الكتاب ( تبيانا ) {[10422]} لكل ما دعا به الرسل ، وجاءت به الرسل والكتب جميعا ؛ ( إذ ){[10423]} في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب ، من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، كقوله : { ومهيمنا عليه } ( المائدة : 48 ) ، ثم اختلف في ذلك البيان . قال بعضهم : تحتمل الآية وجهين :
أحدهما : الخصوص على الأصول دون الفروع ، كذكر الكمال ( للدين ، لأن ذلك وصف الدين ، وقد يقع له الكمال ) {[10424]} بالكتاب والسنة ، وهذا للكتاب . فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة ، لذلك{[10425]} ذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدين ، من الإيمان وأنواع العبادات ، والأحكام مع الحدود ، والحقوق ، ومكارم الأخلاق ، وانتظام {[10426]} صلة الرحم ، وعشرة الإخوان وصحبة الجيران ، ونحو ذلك .
فتشتمل هذه الجملة على أصول الدين ، وما وراءها يكون موكولا إلى بيان الرسول ؛ ليبقى الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة {[10427]} .
والوجه الثاني : أن يكون تبيانا لكل شيء منتظما لما فيه ، ( من ) {[10428]} جمله ومُبْهَمِهِ ومُشكِله ، ولبيان الرسول جمله ، وتفسير مبهمه ، وإيضاحه ، ودلالته على مشكله ؛ إذ {[10429]} السنن كلها بيان للكتاب لارتباط بعض ببعض .
ثم قد تحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوها غير الوجهين اللذين ذكرتهما :
أحدهما : أنه تبيان كل شيء ، ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان ، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان ، فجعل الله الكتاب تبيانا ، ألزمهم بالتدبر والعلم بأنه من عند الله ، بخروجه عما عليه وسع القوم ، عن نوع ما ذكر فيه من الحج والأدلة ، وبما أعجزهم / 291 – أ / عن الطمع في تأليف مثله ونظمه ؛ ليعرفوا أن الله قد أعانهم في ما مستهم {[10430]} الحاجة ، وألجأتهم الضرورة إلى ( من ) {[10431]} يطلعهم على الحق ، في ما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد ، فأنعم الله عليهم به ، وبين فيه جميع ما بهم إليه من الحاجة لدوام الأخوة .
والثاني : أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده . وبالبحث فيه والظفر به بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد ، فيكون هو أصل ذلك . لكن باختلاف {[10432]} الأسباب ، يوصل إلى حقيقة {[10433]} العلم به . وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ، ووصف أن في السماء رزق جميع الخلق ، فإنه أنزل من السماء اللباس والرياش . وأخبر أنه خلقنا من تراب ، ثم أخبر أنه خلقنا جميعا من نفس واحدة ، على رجوع كل ما ذكرنا باختلاف الأسباب والتولد إليه ، والله أعلم . وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب ؛ جعلها الله أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر ، فيكون المحسوس مبينا من ذلك ، دالا على اختلاف الدرجات في هذا البيان مع ما قد جعله الله كذلك . حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي ، وما على ذلك مدار ما عليه المحسوس . فمثله أمر القرآن ، والله الموفق .
والثالث : أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة ، وعلى الكشف ثانيا . فما كان منه على الرمز ، فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور مختلفة . منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي ، من إرسال على لسان ملك أو رؤيا أو إلهام .
والتأمل في ذلك ، والاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق الله للحق في ذلك ، وعصمته عن الزيغ ، أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في الحق التفاتهم لغوامض الأمور ، أو غير ذلك مما يريد أن يطلع عليه نبيه .
فإن لطف رب العالمين بما عامل به الأخيار ، يجل عن احتمال العبارة ، أو تصويره في الأوهام ، نحو كتابة الحفظة ، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض ، ونحو ذلك كله حد اللطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة ( به ) {[10434]} .
فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء ، مع ما يحتمل الرجوع بتأويل الآية إلى أغلب الأمور أو أعمها ، كقوله تعالى : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } ( الأنبياء : 30 ) وغيره . ولا قوة إلا بالله .
والأصل عندنا أن ليس للبيان عدد ، يجب حفظ العدد ، على ما ذكره قوم أنه على خمسة أوجه . إنما هو أمران :
والثاني : ما يبين غيره . لكن الوجوه {[10435]} التي بها يقع ما غاب عن الحواس بالبيان : أصلها {[10436]} الواقع تحت الحواس ، إذ البين الذي من جحد حرم أول درجات البيان ( ومنع عن فهم المجحود ) {[10437]} وكفى كلا مؤنة خصومته ، ثم عَيَّرَه مما يصير بالتأمل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه ، وإن بعد ، أو قرب بدليله كالمحسوس ؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب ، كاستعمال الحواس في ما يشهد . فمن أراد القطع على حد أو شيء احتاج {[10438]} إلى دليل فيه .
وأصل البيان حقيقة ، هو الظهور ، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة . وعلى ذلك مقاديرها من الظهور ، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب ، وتجلي حقائق الأمور لها على قدر العقول في الإدراك ، وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور .
وقوله تعالى : { وهدى ورحمة } ، يجب أن يكون قوله : { تبيانا لكل شيء } ، وقوله : { وهدى ورحمة } ، كله واحد : الرحمة والهدى والبيان ، وبرحمته وبهداه يتبين لهم ، ويتضح . لكنهم قالوا : البيان للناس كافة ؛ يتبين ويتضح إلا من عاند وكابر ، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصة على ما ذكر : { وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } ، ذلك للمسلمين خاصة ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.