روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَوۡمَ يَدۡعُوكُمۡ فَتَسۡتَجِيبُونَ بِحَمۡدِهِۦ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا} (52)

{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من { قَرِيبًا } [ الإسراء : 51 ] على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز إعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفاً أو بضمير المصدر المستتر في { يكون } أو { عسى } [ الإسراء : 51 ] العائد على العود مثلاً بناء على مذهب الكوفيين المجوزين اعمال ضمير المصدر كما في قوله :

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو . . . وما هو عنها بالحديث المرجم

وجعله بدلاً من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة ، والدعاء قيل : مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ } مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى : { كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور ، وتجور بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قول : قم يا فلان أمر سريع لا بطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا ، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني ، وقال الإمام وأبو حيان : يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه { يَوْمٍ * يُنَادِى * المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ ق : 41 ] الآية ، ويقال إن إسرافيل عليه السلام وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت .

وأخرج أبو داود ، وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال : «قال صلى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم » ولعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور ، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازاً والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازاً فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر .

{ بِحَمْدِهِ } حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر ، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته ، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية .

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال : يخرجون من قبورهم وهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل : منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعو كم ليس بشيء ، وعن الطبري أن { بِحَمْدِهِ } معترضين بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله :

فإني بحمد الله لأثوب فاجر . . . لبست ولا من غدرة أتقنع

ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال : عسى أن يكون البعث قريباً يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري ، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى ، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله ، وقيل . الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى : { قَرِيبًا } [ الإسراء : 51 ] فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث . وأخرج الترمذي . والطبراني . وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني باهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وفي رواية عن أنس مرفوعاً : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وقيل : الخطاب للفريقين وكلهم يقولون : ما روى عن ابن جبير .

{ وَتَظُنُّونَ } الظاهر أنه عطف على { *تستجيبون } وإليه ذهب الحوفي وغيره ، وقال أبو البقاء : هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون { بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ } أي ما لبثتم في القبور { إِلاَّ قَلِيلاً } كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدينا كما روى غير واحد عن قتادة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار ، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى ، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب { قَلِيلاً } على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زماناً قليلاً ، وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية .

( ومن باب الإشارة ) :{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } للقيام من القبور { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك .

{ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ } في القبور أو في الدنيا { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ] لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة