روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } تذكير بنعمة أخرى ؛ لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم ، والظاهر من الميثاق هنا العهد ، ولم يقل : مواثيقكم ؛ لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره فكان ميثاقاً واحداً ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام ، واختلف في أنه متى كان ؟ فقيل : قبل رفع الطور ، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم } [ النساء : 154 ] الخ ، وقيل : كان معه { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } الواو للعطف ، وقيل : للحال ، والطور قيل : جبل من الجبال ، وهو سرياني معرب ، وقيل : الجبل المعين . وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا ، وكان على قدر عسكرهم فرسخاً في فرسخ ورفع فوقهم قدر قامة الرجل ، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء/ إلى الإيمان فينافي التكليف ، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم ، فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة بلا عماد جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف ، وقال العلامة : كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري ، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان وفيه كما قال الساليكوتي إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب { خُذُواْ } الخ مع القسر ، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار فالحق أنه إكراه لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه لو خلي ونفسه فيكون معدماً للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول ، وهذا كالمحاربة مع الكفار ، وأما قوله : { لا إِكْرَاهَ في الدين } [ البقرة : 256 ] وقوله سبحانه : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به .

{ خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خذوا وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول ، والمعنى : وإذ أخذنا ميثاقكم بأن تأخذوا ما آتيناكم ، وليس بشيء والمراد هنا بالقوة الجد والاجتهاد كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل ، فحينئذ لا تصلح الآية دليلاً لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال : خذ هذا بقوة ، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل .

{ واذكروا مَا فِيهِ } أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه ، أو تدبروا معناه ، أو اعلموا بما فيه من الأحكام ، فالذكر يحتاج أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما ، والمقصود منهما أعني العمل .

{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى ، وقد ذكر ههنا أن كلما لعل متعلقة بخذوا ، واذكروا إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب ، والمعنى : خذوا واذكروا راجين أن تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعنى التقوى ، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم ، وجوز المعتزلة كونها متعلقة بقلنا المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي : قلنا واذكروا إرادة أن تتقوا ، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة ، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة بخذوا أيضاً على أن يكون قيداً للطلب لا للمطلوب ، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز ، وفيه أن القول المذكور وهو { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال خذوا ما آتيناكم طالباً منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم .

هذا ، ومن باب الإشارة والتأويل في الآية : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ طُورِ } الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها ، أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب ، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا { خُذُواْ } أي اقبلوا { مَا ءاتيناكم } [ البقرة : 3 6 ] من كتاب العقل الفرقاني بجد ، وَعُوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بأفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة .

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى *** فإن لم يجب بادته بيض الصوارم