الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

قوله تعالى : " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور " هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة{[834]} " [ الأعراف : 171 ] . قال أبو عبيدة : المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه . قال : وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته . وقيل : نتقناه رفعناه . قال ابن الأعرابي : الناتق الرافع ، والناتق الباسط ، والناتق الفاتق . وامرأة ناتق ومنتاق : كثيرة الولد . وقال القتبي : أخذ ذلك من نتق السقاء ، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه . قال وقوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " قال : قلع من أصله .

واختلف في الطور ، فقيل : الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره ، رواه ابن جريج عن ابن عباس . وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت . وقال مجاهد وقتادة : أي جبل كان . إلا أن مجاهدا قال : هو اسم لكل جبل بالسريانية ، وقال أبو العالية . وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب{[835]} . والحمد لله . وزعم البكري أنه سمي بطور بن إسماعيل عليه السلام ، والله تعالى أعلم .

القول في سبب رفع الطور

وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها . فقالوا : لا ! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك . فصعقوا ثم أحيوا . فقال لهم : خذوها . فقالوا لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل . فسجدوا توبة الله وأخذوا التوراة بالميثاق . قال الطبري عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق . وكان سجودهم على شق ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا ، فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده ، فأمرُّوا سجودهم على شق واحد . قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم{[836]} لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك .

قوله تعالى : " خذوا " أي فقلنا خذوا ، فحذف . " ما آتيناكم " أعطيناكم . " بقوة " أي بجد واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي . وقيل : بنية وإخلاص . مجاهد : القوة العمل بما فيه . وقيل : بقوة ، بكثرة درس . " واذكروا ما فيه " أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه ولا تضيعوه .

قلت : هذا هو المقصود من الكتب ، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها ، فإن ذلك نبذ لها ، على ما قاله الشعبي وابن عيينة ، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى : " نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب{[837]} " [ البقرة : 101 ] . وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من شر الناس وجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه ) . فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا . وقال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه . فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا . قال الله تعالى : " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم{[838]} " [ الزمر : 55 ] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه ، لكن تركنا ذلك ، كما تركت اليهود والنصارى ، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا ، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء . روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : ( هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء ) . فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا . فقال : ( ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم ) وذكر الحديث ، وسيأتي . وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد : ( ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ) . وفي الموطأ عن عبد لله بن مسعود قال لإنسان : " إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة ، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم . وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم " . وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا . وقد قال يحيى : سألت ابن نافع عن قوله . يبدؤون أهواءهم قبل أعمالهم ؟ قال يقول : يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم .

قوله تعالى : " لعلكم تتقون{[839]} " وتقدم القول في معناه فلا معنى لإعادته .


[834]:راجع ج 7 ص 313.
[835]:راجع ص 68 من هذا الجزء.
[836]:زيادة عن تفسير ابن عطية.
[837]:راجع ج 2 ص 41.
[838]:راجع ج 15 ص 270.
[839]:راجع ص 227 من هذا الجزء.