الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

قوله تعالى : { فَوْقَكُمُ } : ظرفُ مكانٍ ناصبُه " رَفعْنا " وحكمُ " فوق " مثلُ حكم تحت ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . قال أبو البقاء : " ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من " الطور " ، لأن التقدير يصير : رَفَعْنا الطورَ عالياً ، وقد استُفيد [ هذا ] من " رَفَعْنا " وفي هذا نظرٌ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره . قال : " ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع ، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ . ولقائلٍ أن يقولَ : لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة ، وقد قالَ هو في قولِه " بقوة " إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي .

والطُّور : اسمٌ لكلَّ جبل ، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ ، وهل هو عربي أو سُرْياني ؟ قولان ، وقيل : سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام ، وقال العجَّاج :

داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ *** تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ

قوله : " خُذُوا " في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر ، أي : وقُلْنا لهم خُذُوا ، وهذا القولُ المضمر يجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " رَفَعْنا " والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خُذوا . وقد تقدَّم أنَّ " خُذْ " محذوفُ الفاءِ وأن الأصلَ : أُؤْخُذْ ، عند قوله { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] .

قوله : { مَآ آتَيْنَاكُم } مفعولُ " خُذوا " ، و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي لا نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما آتيناكموه .

قوله : " بقوةٍ " في محلِّ نَصْبٍ على الحال . وفي صاحِبها قولان ، أحدهما : أنه فاعلُ " خُذوا " وتكونُ حالاً مقدرة ، والمعنى : خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم عازمين على الجِدِّ بالعمل به . والثاني : أنه ذلك العائدُ المحذوف ، والتقدير : خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي : في العمل به والاجتهادِ في معرفته ، وقوله " ما فيه " الضميرُ يعود على " ما آتيناكم " . والتولِّي تَفَعُّل من الوَلْي ، وأصلُه الإِعراضُ عن الشيء بالجسم ، ثم استُعْمِل في الإِعراض عن الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً ، و " ذلك " إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ الطور وإيتاء التوراة .