البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

الطور : اسم لكل جبل ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة .

أو الجبل المنبت دون غير المنبت ، قاله ابن عباس والضحاك ، أو الجبل الذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام .

وقال العجاج :

دانى جناحيه من الطور فر *** تقضي البازي إذا البازي كسر

وقال آخر :

وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها *** وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل

وأصله الناحية ، ومنه طوار الدار .

وقال مجاهد : هو جنس الجبل بالسريانية .

القوة : الشدّة ، وهي مصدر قوي يقوى ، وطيء تقول : قوي ، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفاً ، يقولون في بقي : بقى ، وفي زهي : زها ، وقد يوجد ذلك في لغة غيرهم .

قال علقمة بن عبدة التميمي :

زها الشوق حتى ظل إنسان عينه *** يفيض بمغمور من الدمع متأف

وهذه المادة قليلة ، وهي أن تكون العين واللام واوين .

{ وإذ أخذنا ميثاقكم } : هذا هو الإنعام العاشر ، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم ، وتقدّم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } والميثاق : ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله ، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله : { ألست بربكم قالوا بلى } ، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء ، أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة ، فلما جاء موسى قرأوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله : { لا تعبدون إلا الله } أقوال ستة .

قال القفال : قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم ، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم ، كقوله : { ثم يخرجكم طفلاً } أو لأن ما أخذه على واحد منهم ، أخذه على غيره ، فكان ميثاقاً واحداً ، ولو جمع لاحتمل التغاير .

انتهى كلامه ملخصاً .

{ ورفعنا فوقكم الطور } : سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة ، أو من السجود ، أو من أخذ التوراة والتزمها .

أقوال ثلاثة .

روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها ، كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا .

فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا .

فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم ناراً بين أيديهم ، فاحتاط بهم غضبه ، فقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر ، وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً .

فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد .

وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل ، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة .

والواو في قوله : ورفعنا ، واو العطف : على تفسير ابن عباس ، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً ، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور .

وأما على تفسير أبي مسلم : فإنها واو الحال ، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم ، نحو قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه وكان في معزل } أي وقد كان في معزل .

{ خذوا ما آتيناكم } : هو على إضمار القول ، أي : وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم .

وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضمار قول ، لأن أخذ الميثاق هو قول ، والمعنى : وإذا أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم ، وما موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : ما آتيناكموه ، ويعني به الكتاب .

يدل على ذلك قوله : { واذكروا ما فيه } ، وقرئ : ما آتيتكم ، وهو شبه التفات ، لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره .

ومعنى قوله : { بقوة } بجدّ واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي ، أو بعمل ، قاله مجاهد ؛ أو بصدق وحق ، قاله ابن زيد ؛ أو بقبول ، قاله ابن بحر ؛ أو بطاعة ، قاله أبو العالية والربيع ؛ أو بنية وإخلاص ، أو بكثرة درس ودراية ؛ أو بجدّ وعزيمة ورغبة وعمل ؛ أو بقدرة .

والقوة : القدرة والاستطاعة .

وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، والباء للحال أو الاستعانة .

{ واذكروا ما فيه } .

قرأ الجمهور : به أمراً من ذكر ، وقرأ أبيّ : واذكروا ما فيه : أمراً من اذكر ، وأصله : وإذتكروا ، ثم أبدل من التاء دال ، ثم أدغم الذال في الدال ، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني ، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ، ويدغم فيه الأول فيقال : اذكر ، ويجوز الإظهار فتقول : إذ ذكر .

وقرأ ابن مسعود : تذكروا ، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا .

فعلى القراءتين قيل : هذا يكون أمراً بالادكار ، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتباً على حصول الأخذ بقوة ، أي أن تأخذوا بقوّة تذكروا ما فيه .

وذكر الزمخشري أنه قرئ : وتذكروا أمراً من التذكر ، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود ، ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو ، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب ، قاله ابن عباس ؛ أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه ، قاله الزجاج ؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى .

والذكر : قد يكون اللسان ، وقد يكون بالقلب على ما سبق ، وقد يكون بهما .

فباللسان معناه : ادرسوا ، وبالقلب معناه : تدبروا ، وبهما معناه : ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه .

أو أريد بالذكر : ثمرته ، وهو العمل ، فمعناه : اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع .

والضمير في فيه يعود على ما .

وقال في المنتخب : لا يحمل على نفس الذكر ، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل الله تعالى ، فكيف يجوز الأمر به ؟ انتهى .

{ لعلكم تتقون } : أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه .

وقيل : معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه .

والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه ، يدل على ذلك : { ثم توليتم من بعد ذلك } .

فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به .

وفي بعض القصص أنهم قالوا ، لما زال الجبل : يا موسى ، سمعنا وأطعنا ، ولولا الجبل ما أطعناك .

وفي بعض القصص : فآمنوا كرهاً ، وظاهر هذا الإلجاء .

والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود ، حتى كان إيمانهم طوعاً لا كرهاً .

/خ66