فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا } هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا كما تقدم غير مرة . وقد تقدّم تفسير الميثاق ، والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة ، وبما هو أعم من ذلك ، أو أخص . والطور : اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، وأنزل عليه التوراة فيه . وقيل : هو : اسم لكل جبل بالسريانية . وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم : اسم خذوها ، والتزموها . فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك . فصعِقوا ، ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، والتزموها ، فقالوا : لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين ، طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتُوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم خذوها ، وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق . قال ابن جرير عن بعض العلماء : لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق . قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان ، لا أنهم آمنوا كرهاً ، وقلوبهم غير مطمئنة . انتهى . وهذا تكلُّف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره ، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا ، أو أشد منه ، ونحن نقول : أكرههم الله على الإيمان ، فآمنوا مكرهين ، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان ، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام ، والسيف مصلت قد هزَّه حامله على رأسه ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية ، ولم تكن عن قصد صحيح : «أأنت فتشت عن قلبه » وقال : «لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس » وقوله : { خُذُوا } أي : وقلنا لهم : { خذوا مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } والقوّة : الجدّ والاجتهاد . والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به .