روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

{ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } أية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت ، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيراً وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيراً وجعلنا أمه آية بأن ولدت من غير مسيس ، وقال الحسن : إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضاً حيث قالت : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ولم تلتقم ثدياً قط ، وقال الخفاجي : لك أن تقول : إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيس عليه السلام لنبوته دون مريم اه . ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم ، والتعبير عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية ، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى : { وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام .

وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء ، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام هم بتخليتها فرأى في المنام ملكاً أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلاً . والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقوداً عليها ليوسف ويسلمون أها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون : كان ذلك لقرابته منها { وءاويناهما } أي جعلناهما يأويان { إلى رَبْوَةٍ } هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل .

واختلف في المراد بها هنا فاخرج وكيع . وابن أبي شيبة . وابن المنذر .

وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { إلى رَبْوَةٍ } أنبئنا أنها دمشق ، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا : الربوة هي دمشق ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف .

وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال : هي الرملة من فلسطين ، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعاً ، وأخرج الطبراني في «الأوسط » . وجماعة عن مرة البهزي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الربوة الرملة ، وأخرج ابن جرير . وغيره عن الضحاك أنه قال : هي بيت المقدس ، وأخرج هو وغيره أيضاً عن قتادة أنه قال : كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس ، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلاً ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه ، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها ، وأخرج ابن المنذر . وغيره عن وهب . وابن جرير . وغيره عن ابن زيد الربوة مصر ، وروى عن زيد بن أسلم أنه قال : هي الإسكندرية ، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت ، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في «البحر » ، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون : أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمه في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح ؟ فقالوا : في بيت لحم فدعا المجوس سراً وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم : اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجدوه مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكاً يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلاً ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس فلما توفى رأى يوسف الملك في المنام يقول له : قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اه ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم .

وقرأ أكثر القراء { رَبْوَةٍ } بضم الراء وهي لغة قريش .

وقرأ أبو إسحق السبيعي { رَبْوَةٍ } بكسرها ، وابن أبي إسحق { رباة } بضم الراء وبالألف ، وزيد بن على رضي الله تعالى عنهما . والأشهب العقيلي . والفرزدق . والسلمي في نقل «صاحب اللوامح » بفتحه وبالألف . وقرىء بكسرها وبالألف { رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ } أي مستقر من أرض منبسطة ، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوى إليه ، وقال مجاهد : ذات ثمار وزروع ، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى : { وَمَعِينٍ } أي وماء معين أي جار ، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى بمعنى جرى ، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر .

وفي «البحر » معن الشيء معانة كثر أو من الماعون ، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه ، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهراً مشاهداً بالعين ، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع .