اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } والمراد عيسى - عليه السلام{[32925]} - وأمه «آيَةً » دلالة على قدرتنا . ولم يقل آيتين قيل : معناه جعلنا شأنهما آية . وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا{[32926]} }{[32927]} [ الكهف : 33 ] . قال المفسرون : معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر ، وأنطقه في المهد في الصغر ، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه{[32928]} والأبرص{[32929]} ، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر{[32930]} . وقال الحسن : تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }{[32931]} [ آل عمران : 37 ] ، ولم تلقم ثدياً قط{[32932]} . قال ابن الخطيب : والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة ، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة ، ويدل على هذا وجهان :

الأول : قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } لأن نفس المعجز ظهر منهما ، لا أنَّه ظهر على يديهما ، لأنَّ الولادة فيه وفيها{[32933]} بخلاف الآيات التي ظهرت على يده .

الثاني : قوله : { آيَةً } ولم يقل آيتين ، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى ، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى{[32934]} .

قوله : { وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ } «الرُّبْوَة » و «الرُّبَاوة » في رَائهما{[32935]} الحركات الثلاثة{[32936]} {[32937]} ، وهي الأرض المرتفعة .

قال عطاء عن ابن عباس : هي{[32938]} بيت المقدس ، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب{[32939]} قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً {[32940]} .

وقال أبو هريرة : إنها الرَّمْلَة{[32941]} . وقال السدي : أرض فلسطين{[32942]} . وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك{[32943]} . وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر{[32944]} . والقَرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة{[32945]} . وقال قتادة : ذات ثمارٍ وماء ، أي : لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها{[32946]} . قوله : «وَمَعِينٍ » صفة لموصوف محذوف ، أي : وماء معين . وفيه قولان :

أحدهما : أن ميمه زائدة ، وأصله مَعْيُون{[32947]} . أي : مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع{[32948]} وبابه وهو مثل قولهم : كَبْدتُه ، أي ضربت كَبده ، ورأسته أي : أصبت رأسه ، وعنْتُه أي : أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن {[32949]} .

والثاني : أن الميم أصلية ، ووزنه ( فَعِيل ) مشتق من المَعْن{[32950]} .

واختلف في المعين ، فقيل : هو الشيء القليل ، ومنه : المَاعُون{[32951]} . وقيل : هو من مَعنَ الشيء معانة أي : كثر{[32952]} ، قال جرير{[32953]} :

إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا *** وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا{[32954]}

وقال الراغب : هو من مَعَن الماء جرى ، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان ، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه ، وأمْعَن بِحَقِّي : ذهب به ، وفلانٌ معن في حاجته{[32955]} يعني : سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة .

وفي المعين قولان {[32956]} :

أحدهما : أنّه مفعول ، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه : إذا أدركه بعينه .

وقال الفراء{[32957]} والزجاج{[32958]} : إن شِئْتَ جعلته ( فَعِيلاً ) من المَاعون ، ويكون أصله من المَعْن{[32959]} والمَاعون فاعُول منه . قال أبو علي : والمعين : السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى ، والماعون ما سهل على معطيه . قالوا : وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة{[32960]} سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم{[32961]} .


[32925]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[32926]:[الكهف: 33].
[32927]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/14، الكشاف 3/49.
[32928]:الأكمه: الكمه في التفسير: العمى الذي يولد به الإنسان. كمه بصره – بالكسر كمها وهو أكمه إذا اعترته ظلمة تطمس عليه. والأكمه الذي يولد أعمى. اللسان (كمه).
[32929]:البرص: داء معروف، وهو بياض يقع في الجسد، برص برصا، والأنثى برصاء. ورجل أبرص، وحية برصاء: في جلدها لمع بياض، وجمع الأبرص برص. اللسان (برص).
[32930]:انظر الفخر الرازي 23/103.
[32931]:[آل عمران: 37].
[32932]:انظر الفخر الرازي 23/103.
[32933]:في ب: فيها.
[32934]:الفخر الرازي 23/103 – 104.
[32935]:في النسختين: رائها.
[32936]:في ب: الثلاث.
[32937]:كلها لغات قرئ بها، فقرأ عاصم وابن عامر "إلى ربوة" فتحا وباقي السبعة "ربوة" ضما وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها. وقرأ محمد بن إسحاق (رباوة) بضم الراء وبالألف وقرأ زيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي بفتحها وبالألف. وقرأ أبي إسحاق بكسرها وبالألف. السبعة 446) المختصر (98) تفسير ابن عطية 10/361 اللسان (ربا) البحر المحيط 6/408.
[32938]:في ب: هو.
[32939]:انظر القرطبي 12/126.
[32940]:المرجع السابق.
[32941]:الرملة: مدينة بالشام. اللسان (رمل)، الفخر الرازي 23/104.
[32942]:انظر البغوي 6/21 – 22.
[32943]:انظر القرطبي 12/126.
[32944]:انظر البغوي 6/21، الفخر الرازي 23/104.
[32945]:انظر الكشاف 3/49.
[32946]:المرجع السابق.
[32947]:انظر معاني القرآن للفراء 2/237، التبيان 2/956.
[32948]:انظر الممتع 2/454 – 460، شرح الشافية 3/147 – 148.
[32949]:البحر المحيط 6/394.
[32950]:انظر معاني القرآن للفراء 2/237، التبيان 2/956.
[32951]:انظر التبيان 2/956.
[32952]:انظر البحر المحيط 6/394.
[32953]:في ب: قال الشاعر.
[32954]:البيت من بحر الكامل قاله جرير، وهو في ديوانه 1/386 والكامل 2/817، ومجالس ثعلب 2/597، اللسان (وشل) والبحر المحيط 6/394. الوشل: الماء القليل، وقيل: الكثير، فهو على ذلك من الأضداد، والوشل من الدمع يكون القليل والكثير، وبالكثير فسر بعضهم هذا البيت.
[32955]:المفردات في غريب القرآن (470).
[32956]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/104.
[32957]:قال الفراء: (وقوله: "ومعين": الماء الجاري. ولك أن تجعل المعين مفعولا من العيون، وأن تجعله فعيلا من الماعون ويكون أصله المعن) معاني القرآن 2/237.
[32958]:قال الزجاج: (و"معين" ماء جار من العيون. وقال بعضهم: يجوز أن يكون فعيلا من المعن مشتقا من الماعون. وهذا بعيد، لأن المعن في اللغة الشيء القليل، والماعون هو الزكاة، وهو فاعل من المعن) معاني القرآن وإعرابه 4/15.
[32959]:في النسختين: المعين.
[32960]:في النسختين: اثني عشر.
[32961]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 23/104.